صفحة الكاتب : د . محمد تقي جون

العنقاء.. السفر إلى الله
د . محمد تقي جون

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

الخلفية الفكرية للعنقاء

          بادئاً لابدّ من تأكيد حقيقة أن الغزالي متصوف وليس فيلسوفاً، فهو الذي هاجم الفلاسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة)، وقد قسمهم إلى ثلاثة أقسام: دهريين جحدوا الله، وطبيعيين آمنوا به وأنكروا البعث، وإلهيين آمنوا به وبالبعث ولكنهم قالوا (إنّ الله يعلم بالكليات ولا يعلم بالجزئيات)، وكان رده على الفلاسفة غير موضوعي مما عرضه لهجوم فيلسوف حقيقي هو ابن رشد في رده عليه بكتابه (تهافت التهافت).

وان الغزالي صاحب تفكير عقلاني نأى به عن العاطفة في تقييم كل الأمور حتى الدينية، وبالتالي فانه نظر إلى الفرق الإسلامية نظرته الفكرية تلك ولم يحكّم العاطفة بتاتاً، فرأى أن الحق محصور في المتكلمين [أهل الرأي والنظر]، والباطنية [الآخذين عن الإمام المعصوم]، والفلاسفة [أهل المنطق والبرهان]، والمتصوفة [أهل المكاشفة والمشاهدة والتجريب]، ولكل من هؤلاء مرجعية فكرية معتبرة متناظرة في رأيه فهو يرى أن (الحق لا يعدو هذه الفرق الأربع..فان شذ الحق عنهم، لم يعُد في درك الحق مطمع) وقد اختار (المتصوفة).

والغزالي تأثر بالثقافة الفارسية، فهو مولود في طوس، وأستاذه الأول الجويني شيخ خراسان، كما تأثر بأفكار أخوان الصفا والإسماعيلية كما يرى بروكلمان وغيره، وكانت الإسماعيلية قد استقرت في قلعة آلموت وقلاع أخرى في فارس. وان التصوف استفاد من فارس حتماً، وان ذهب فريق من الباحثين مثل ماسينون الى ان التصوف عربي نشأ كوفياً وانتشر بعد ذلك ولكنهم اعترفوا بوجود التصوف الفارسي الممثل بـ(الملامتية)، على ان العرب بكل حال استفادوا من التصوف الفارسي ونحن لا نعرف شعر تصوف الا في العصر العباسي، وكان الأثر الفارسي الفكري التصوفي واضحا في الغزالي. غير ان الغزالي لم يكن نسخة مكررة من أحد، وقد اختلف مع أهل الشطحات والخرافات والهذيان، أو الذين جمعوا إلى التصوف الإسلامي المعتقدات والديانات القديمة كالإيمان بمبدأ الحلول، الذي آمن به الكثيرون كالحلاج وابن عربي، وهو مبدأ غنوصي، فالغزالي يرى: أن الصوفية فناء الروح في الله، وتجرد النفس الإنسانية من كل علائق البدن، ومؤثرات الحياة الدنيوية. وهذه الخلفية الفكرية للغزالي سنجدها في (رسالة الطير- العنقاء).

 

الخلفية الفنية للعنقاء

          يبدو الغزالي مستعملا للأسلوب القصصي، وان كان التكلف واضحاً وعدم إتقان الفن مؤشراً، إلا انه بما لا يقبل الشك قد استعمل هذا القالب، وهنا نشير إلى أن فن الحكاية عرفته فارس قديماً كما يظهر في أساطيرهم كـ(هزار افسانة) و(زال) و(أبسال وسلامان) التي حاكاها ابن سينا في إحدى أعماله وبالعنوان نفسه.

          وكان قد استعمل القصة الشاعر وضاح اليمن في إحدى قصائده، كما استعملها الأعشى في قصيدته عن السموأل، واتهم وضاح اليمن بأنه نقل فن القصة من بلاد فارس. غير أن الشاعر الذي استعمل القصة والحوار في شعره بشكل لافت هو عمر ابن أبي ربيعة، ولعله استفاد من تجربة الفرس، فاغلب الفنانين الذين تعامل معهم عمر ملحنين ومطربين ومطربات من فارس، وكانت الدولة الأموية تحتكر الثقافة، ولا يبعد أن تكون الدولة الأموية فتحت أمامه مجال الاتصال والاستفادة؛ ففي كتاب الأغاني نجد عمر على علم ببعض الكلمات والمصطلحات الفارسية، ويعد ( الشعر القصصي الرومانتيكي) من فنون الشعر الفارسية القديمة ومن نماذجه: (وامق وعذرا) و(شادبهر وعين الحياة) و(شيرين وخسرو)..

          غير أن الذي وجّه فن القصة، وحدد إطاره، ووظفه بديع الزمان الهمذاني في (المقامات)، فقد جعل من القصة خلفية لضخ المادة التعليمية، وهكذا أصبح تقبل دروس الزجاج وقطرب واللغة العربية القاموسية من الجيل الجديد ممكناً بعدما صار ينفر من تلك الدروس، لما تسهله عليه الخلفية القصصية ذات الطابع التشويقي وهي (الكدية).

          وهذا يؤشر بروز هذا الفن وإقبال الناس عليه، وبالفعل ففي تلك الحقبة ازدهر فن الحكاية عند العرب وكانت طبقة القصاصين معروفة وراسخة، وظهرت الشاهنامة ملحمة الفرس تتويجا لما سبق، فاستوعبت قصصاً كثيرة في البطولة والرومانتيكية، من قبل شاعرين عملاقين الدقيقي كتب ألف بيت منها، ثم الفردوسي أكملها إلى (60) ألف بيت. وقد وجد الفلاسفة كابن سينا وابن طفيل، والمتصوفة كالسهروردي والغزالي الطريق معبدة لاستثمار هذه الخلفية لبث آرائهم، وان تسويق القصة للدروس التعليمية الثقيلة من قبل بديع الزمان والحريري حتماً سيماثله تسويقها الفلسفة أو الأفكار الصوفية الجامدة.

 

فكرة السفر والعنقاء

          فكرة (السفر إلى الله) فكرة صوفية خالصة، وان اختلفت من تصوف إلى آخر، كما أن المتصوفة تذهب إلى أن السفر يحتاج إلى ترشيق الجسم بل تصفيره؛ فبهذا الجسم المترهل بقوى الشر: (الشهوانية والغضبية والتخييلية والحدسية) لا يمكن السفر، وبالتخلص من هذي القوى المتحكمة يصبح الصوفي قادرا على الوصول إلى الله؛ قال ابن سينا :"لقد ألصقتَ يا مسكين بهؤلاء الصاقاً لا يبريك عنهم إلا غربة تأخذك إلى بلاد لم يطأها أمثالهم وهي (سياحة عقلية)، وكانت فكرة (حي بن يقظان) عنده (حي = العقل) (بن= نفي ذاتية وجود الإنسان) (يقظان = الله لا تأخذه سنة ولا نوم) السفر إلى الله والبحث عن الكنه والماهية في (أقطار العوالم) وليس عالمنا فقط.

وإذا تخلص الإنسان من سطوة جسده (حمار الخنا) فانه سيصبح كالطير خفة، وهنا يقف الطير رمزاً صوفياً كبيراً، قال أبو زيد البسطامي:"أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت طيراً جسمه من الاحدية، وجناحاه من الديمومة، فلم أزل أطير في هواء الكيفية عشر سنين حتى صرت إلى هواء مثل ذلك مائة ألف ألف مرة، فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية فرأيت فيها شجرة الاحدية".  

و(العنقاء) طائر خرافي قيل: كلمة لا أصل لها، وقيل انه لم يره أحد، وقيل: هي الداهية، والأبابيل، وأضافوا إليها كلمة مغرب فقيل (عنقاء مغرب) ولعل الاسم جمع مجاهيل وتهويلات كثيرة، جعله مقنعاً للغزالي ليستعمله رمزاً لله يقابل رمز الطير للإنسان. وارى أن الغزالي اصطدم بجدار اللغة في كلمة (عنقاء) كما اصطدم السياب بجدار اللغة باحثاً عن كلمة تؤدي صوتياً وقع المطر فلم يجد غير (مطر) الخاذلة بينما أدتها كلمة (trip) الانكليزية فسمت القصيدة. ففي مقابل (العنقاء) نجد (سي مرخ) الطائر الخرافي عند الفرس، وقد أفادت هذه اللفظة جلال الدين الرومي في رحلة مماثلة وأدت وظيفتها اللغوية منسجمة مع فكرته الصوفية تماماً..

تقوم فكرة الغزالي بسفر مجموعة من الطيور إلى (العنقاء) وهو رمز مقصود، يقابله عند ابن سينا في (رسالة الطير) (الملك الأعظم)، وهنا الكلمة بلا رمزية. وهذه الطيور تتساقط في الطريق الطويل الشاق فتبقى منها (شرذمة قليلة)، ثم تصل إلى باحة الملك الأعظم فلا يرحب بها، وبعد مخاض قارب اليأس سمح لها، ورأت تقبلا من الله الممثل بهذا الطائر، عندها تسأل الطيور الناجية عن مصير الطيور التي سقطت في الطريق فتطَمْأن عليها بأن لها أجر الجهاد (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله)، وجزاء الشهادة (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء). ثم ينتهي الغزالي الى القول داعيا إلى (الطيرية والسفرية): (من يرتاع لمثل هذه النكت فليجدد العهد بطور الطيرية وأريحية الروحانية).  

وإذا قارنا قصة (العنقاء) هذه بالقصة المماثلة لجلال الدين الرومي (سي مرخ)؛ نجد عند الرومي مجموعة من الطيور عددها (30) وهو (سي) بالفارسية، تقوم بالرحلة بحثاً عن الطائر العملاق (سي مرخ) ليكون الملك عليها، وفي الطريق تتساقط الطيور فرط البعد والشدة فتبقى قلة تماما كما عند الغزالي، ولكن يختلفان في أفكار جوهرية، فالطيور لا تصل إلى الـ(سي مرخ) أبداً، وهنا تقعد عن السفر والبحث وتمر بمخاض اليأس (الغزالي) ولكنها بعد صمت وتفكير وتأويل تكتشف بأنها هي الـ(سي مرخ)، وهنا يستعمل جلال الدين الرومي مفارقة لغوية موفقة في مزج الفكرة الصوفية بالقالب اللغوي (سي = 30) (مرخ = طير) وهكذا فثلاثين طيراً يعادل طائر الـ(سي مرخ). والفكرة التي أداها الرومي هي: لماذا نبحث عن الله في مكان خارجنا والله موجود فينا = نحن الله، وهذا تجسيد لمبدأ الحلول الذي آمن به كثير من المتصوفين كالحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي، وهكذا فالغزالي يختلف عن هؤلاء في انه لا يؤمن بـ(الحلول)، ويؤمن بـ(الفناء كلية في الله).

والغزالي كما يرى دارسوه لم يستطع الانفلات من الفلسفة وان أعلن الحرب عليها وعلى الفلاسفة، ويكفي انه أضاع سنتين في دراسة الفلسفة وان كانت دراسة كيدية أراد بها إيجاد نقاط ضعف يصول من خلالها على الفلسفة، وان هذه الدراسة تمكنت من نفسه وأبقت آثارها فيه وفي آثاره. وأصل فكرة قصة العنقاء قامت على أساس منطقي فلسفي، وكذلك تسلسل الأحداث والجدل المنطقي في نهاية القصة، كما أن قصة العنقاء جاءت تجسيداً لفلسفة الغزالي الصوفية وهي: (إنّ التصوف طريقة تتم بالعلم والعمل)، فما آمن به الطيور وخططوا له (علم)، وتجسيدها الفكرة بالسفر (عمل).

ونجد الغزالي يلجأ إلى بعض أساليب (المقامة) كالسجع والأشعار، ولكنه يخالفها بإيراد الآيات القرآنية. والغزالي يفتقر إلى خصوصية البديع والحريري في السجع والأشعار، فالسجع عنده مقصود حيناً وغير مقصود حيناً آخر، بينما في المقامة مقصود قصداً، والشعر في المقامات لأصحابها أي البديع والحريري، بينما الأشعار في العنقاء لشعراء آخرين مختلفين: البحتري، الشبلي، المتنبي، مهيار الديلمي.. كما أن الغزالي يتصرف في رواية البيت أو ينقل الرواية غير الشهيرة غالباً حرصاً على لفظ رآه أكثر دلالة وتعبيراً مثل: (قوموا إلى الدار)/ المشهور (ميلوا إلى الدار)، (من سعدى)/ (من سلمى)، (أن لا تحل)/ (أن لا تمر)، (ما لمقصدهم نحو)/( ما لمقصدهم سبلُ). وهو ما يؤكد في جملته عدم إلحاحه على الجانب الأدبي، وهمه في النبوغ والتمكن الصوفي، وقد تأكد ذلك من سيرته فانه تفرغ في آخر حياته لله تعالى؛ قال تلميذه أبو بكر بن العربي وجدته عليه مرقعة وبيده ركوة وعكاز، فقلت له: أليس تدريس العلم ببغداد خير من هذا؟ فنظر اليّ شزراً وقال: لمّا بزغ بدر السعادة في سماء الإرادة وجنحت شمس معارف الوصول؟!!


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد تقي جون
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/07/14



كتابة تعليق لموضوع : العنقاء.. السفر إلى الله
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net