صفحة الكاتب : د . سمير ايوب

عشوائيات في الحب - العشوائية 19
د . سمير ايوب

في المشافي عادة ، مَشاهدٌ تَختصرُ الكثيرَ مِمَّا في الحياة . على يمينِكَ قد يكون رجلٌ فرِحاً ، يستخرج شهادة ميلادٍ لمولودٍ جديدٍ لَه . وعنْ اليسارِ منكَ آخرٌ ، يَستخرجُ شهادةَ وفاةٍ لِعزيزٍ عليه . هذا الاختصار من الأسبابِ التي تشدُّني لزيارة المشافي ، كلًّما عصفَ بي حنينٌ إلى تصفُّح نفسي ، أو التبست أليُفَط ُأمامي ، أوتناسَلَت شعاراتٌ ومُسمَّياتٌ تُحيِّرُني وهي تَرتَطمُ بسمعيَ أو ببصري .

مع إطلالةُ شمسٍ دافئةٍ ، صبيحةَ هذا اليوم الشُّباطيُّ ، نظرتُ في المِرآة . فرأيتُ وجهاً مُتعباً أرهقتهُ الحياةُ . شِفاهٌ صدِئَةٌ ، لسانٌ مُعتَقلٌ في أقبيةِ فمي ، أعينٌ مُتثاقلةٌ بِلا وميضٍ . قبلَ أن يورقَ دمعٌ فيها ، يَمَّمْتُ وجهيَ صوبَ المدينة الطبية في عمان ، فهي ترقد فوق تلة ولا أجمل من تلال غرب عمان . وانْتَبذبتُ في غربِها مكانا قصيا . حيث الأشجارٌ والأزهارٌ والأعشابٌ ، تنمو في صمت . مِثلُها كنتُ ، أدركُ حاجتي لِصمتٍ مُؤثِّرٍ أحياهُ .

في مقهى على رصيفِ مركز جراحة القلب هناك ، جلستُ مُغمِضا عينيَّ . فجأة ، سمعتُ وأنا مُغْمِضٌ صوتا نَسويا غاضبا . مُتكاسِلاً فتَحتُ عينيَّ ، تَلفتُّ يَمنة ويَسرة باحثا عن مصدر الغضب . فوقعَ بصري على امرأة قُبالَتي ، أنيقة الجَمال ، ظَنَنْتها في الخمسين من عمرها . سمَّاعتها الطبية حول رقبتها ، مرتديةً مريولا طبيا ناصع البياض ،وقبالتها يجلس رجل كان يعطيني ظهره ولا يراني . عاودتُ اغماض عينيَّ ، وواصلتُ الاستماع لحوارٍ كان عاصفا بينهما . فهمت من شكوى المرأة للرجل المقابل لها ، أنها قد اكتشفت قبل أيام ، أن صديقة لها ، ليست بأجمل منها كما تظُن ، قد استحوذت بالكامل على قلب من تحب . وباتت هي خارج السياق العام والخاص لحياته . سألَتْهُ بألمٍ مشوبٍ بالكثيرِ مِنَ الغضبِ والاستنكار المُرِّ :

قل لي يا باشا : من الذي أسمى النساء بالجنس اللطيف ، والمعروف أن وراء كل رجل سجين امرأة . ووراء كل رجل مديون امرأة .ألا ترى مثلي ، أن وراء كل مشكلة امرأة ، ووراء كل حرب امرأة ؟! ولا تنس أيضا ، أن وراء كل حادث سَيرٍ امرأة . ووراء كل عراك مع الجيران امرأة . ووراء كل أبٍ أوأمٍّ قد تم التخلص منهم ، في دار للمسنين ، أومأوى للعجزة امرأة .

نفذ صبر الرجل الباشا ، فصاح قائلا لها بلسانه وبأصابعه العشرة فيما أظن : مهلا مهلا ، ما بك يا امراة من غضب ؟! أنسيتِ أنَّ وراء كل رجل عظيم ، أو ناجح أو سعيد أو شجاع ، امرأة أيضا وأيضا !!! وأكمل الرجل دون أن يلتفت إلى همهماتها : ولَدَتني امرأةٌ يا دكتورة ، وربَّتني وعلَّمتني امرأة ، وأحببتُ امرأة وسأتزوج امرأة ، فكيف لا أحترم النساء ؟

بعضُ القلوب يا سيدتي ياسمينٌ ، يُعانِقُكِ بلا شوك ، تمتلئين بها وأنت تضميها . ونخشى الحياة بعيدا عن بعضهن . ولا تصح قهوة الصبح بدونهن ، وعلى ضوء أقمارهن تكتب الأعمار . ولبعضهن نُقلَّب دفاترَ فرَحنا ، ويأخذنا وجعُ بعضهن مشاويراً معها .

إبتسمت المرأة بصفراوية ، وصرخت موجوعة بوجهه ، وأدارت وجهها له ، تماما كما يفعل حنظلة ناجي العلي ، وغادرت المكان بسرعة ، دون أن تنتظر منه جوابا وهي تردد : شو بعرِّفْكم أنتم يا معشر الرجال . بناتُ جنسي ، وأنا بهن أكثر دراية منكم . ستَبقون مُحاصَرين بالوهم .

نهض الرجل الباشا للحاق بها ، فانتبه لوجودي ، وأدرك من ملامح وجهي ، أنني كنت متابعا لصراخهما الغاضب . أومأت برأسيَ مُجيبا على سؤال لم يَنطقه ، نعم يا سيدي ، سمعتُ كلَّ شيء . دعوته للهدوء ، وأشرت له بيدي أن يتفضل بالجلوس معي ، فجلس وفي عينيه ألف سؤال وسؤال . يريد أن يفهم مني .

عاجلته قائلا : كلاكما على حق . لائحة الاتهام التي قصفتك بها صحيحة . ولائحة دفاعك صحيحة هي الأخرى . فبعض النساء كما قالت السيدة الغاضبة كبعض الرجال ، سيئات وسيئون . يثيرون السخط وكثيره . وكما قُلتَ أنت ، فإن بعض النساء تماما كبعض الرجال ، رائعات ورائعون ، يُحتفى بهن ويُكَرَّمون . قُلتُما نفسَ المعنى ، ولكن من زاويتين متكاملتين .

من الشائع أنَّ بعض الرجال كبعض النساء ، يتبادلون تصديق العديد من الأساطير وبناء أحكام مسبقة وفقها ، دون التحقق من صحة ما يسمعون . وجلُّهم يعلمون ، أن من الخطأ التعميم على جنس بأكمله ، لمجرد أن بعض من ينتمون لهذا الجنس ، يرتكبون أخطاء وحماقات أحيانا .

وهذا هو ما يجعل كلا منكم بشكل لا إرادي ، يراقب تصرفات الآخر عندما يقابله ، ويحاول أن يطابق الإشاعات مع ما يراه حقيقة أمامه.

سألني بكل لغات جسده : ما العمل ؟

قلتُ : بإعادة النظر في تقنيات التفكير وطرق التدبر ، بعيدا عن الغرق في فلسفات اقتفاء الأثر . والبدء برؤية الأخر على ما هو عليه حقيقة ، و ليس كما تصوره الإشاعات. فليس من السهل النظر إلى الاخر بحيدة وموضوعية ، إنْ بقي الواحد منا ، ممتلئا بالافكار السلبية والإشاعات عنه ، فلا بد لهذه الأفكار المسبقة ، من أن تؤثرعلى حكمنا النهائي ، حتى على احب الناس الينا .

من الطبيعي أن نختلف حول بعض الامور وأن نرتطم حول بعض القضايا ، وأن تتفاوت وجهات النظر ، ولكن من غير الطبيعي ، الاختلاف حول كل شيء ، وعدم التوافق او التطابق حول اشياء وقضايا اخرى . فنحن وهن معا ، ضرورة للمضي قدما في الحياة .

وعندما يضع أحدكم رأسَه على كتفِ الآخر ، تذكروا المتفائلَ الذي اخترع الطائرة ، ولا تنسوا ذاك المتشائم ، الذي اخترع مِظلَّةَ الطوارئ ؟!

ولِتُبحروا جيدا فيما أقول ، ضعوا نقطةً هنا ، ولا تبحثوا عن أيِّ سطرٍ جديد .

الاردن – 17/2/2020


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . سمير ايوب
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/02/18



كتابة تعليق لموضوع : عشوائيات في الحب - العشوائية 19
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net