
البصرة/ صفاء ذياب
ضيّفت مدينة البصرة القاص والروائي نعيم آل مسافر للحديث عن تجربته السردية عموماً، وروايته الأخيرة (أصوات من هناك) في جلسة أقيمت في مقر التجمع الثقافي العراقي الحديث بمنطقة العشار.
الجلسة التي قدّمها القاص كامل فرعون، وشارك فيها عدد من أساتذة ونقاد المدينة، تحدّث فيها آل مسافر عن حياته حينما كان في القرية التي قضى فيها أكثر من 17 عاماً قبل انتقاله إلى المدينة، مؤكّداً أن حياته الأولى كان لها الأثر الواضح في بناء شخصيته ولغته وعوالمه الروائية.
العلاقة بين آل مسافر وجدّه كانت مرتبطة- حسب ما قال- بإجبار جدّه له على تنعيم القهوة بـ(هاون) من النحاس، وهذا ما أعطاه دربة مهمة في صقل كل شيء، وعدم قناعته بالانتهاء منه نهائياً..
ومن ثمَّ تحدّت عن تجربته الروائية الأولى (كوثاريا)، إذ كانت بغداد هي المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية، لكنه في روايته الثانية (أصوات من هناك ذهب إلى موطنه الأول (القرية) وانطلق منها، جامعاً فولكلورها وبيئتها وثقافتها الخاصة،"هذا ما حصل في تجربتي الروائية الثانية؛ فقد جاءت في مسودتها الأولى بصوت واحد, وكان المكان (تل ساسة) هو الشخصية الرئيسة فيها, بل استحوذ على عنوانها الأول لسنة أو أكثر تقريباً, لكن بعد أن نضجت شخصياتها, وتمردتْ, وبدأت بالحديث والإصرار على أن ترفع صوتها, لذلك أصبحت الرواية في المسودة الثانية بخمسة أصوات, كانوا جميعاً أمواتاً، حضروا في جلسة تحضير الأرواح, انفلتت من بين أصابع من أقامها وبقيت مفتوحة, وبقيت تلك الأرواح هائمة مضطربة، فتحدثت للكاتب لعل حكاياتها تسمع فتُغلق الجلسة..ولكن في أثناء ذلك، وهم يروون لي ما حدث، شاركهم الزمان والنهر والقرية وطبق الخوص والتمثال, وارتفعت أصواتهم لأنهم كانوا يخشون الموت أو المسخ أو الضياع والاندثار, فجربت تدوين أصواتهم، ليستمروا بالوجود أيضاً من خلال هذه الرواية, فجاءت بهذا الشكل في مسودتها الثالثة, وبهذا العنوان, وبهذه الآلية من تعدد للأصوات والشخصيات وتراكم الحكايات".
ويضيف آل مسافر: من خلال التجربتين الروائيتين السابقتين, تعلمت واكتشفت أن كتابة الرواية أشبه بإقامة جلسة لتحضير الأرواح, أما مراجعتها وتشذيبها فهي أشبه بتنعم القهوة وتحضيرها, في طقوس خاصة من الصمت وحسن الاستماع لأصوات غير مسموعة والتفرس في وجوه غير مرئية.
أكثر من ورقة نقدية قدّمت في هذه الجلسة الاحتفائية، ابتدأها الدكتور عادل عبد الجبار أستاذ السرد في كلية الآداب، مبيناً البنية الجديدة التي اشتغل عليها آل مسافر، وصرامته في البناء واللغة المقتضبة، مضيفاً أن العناية بتعددية الأصوات أدت إلى العناية بجماليات التشكيل المؤسطر المستند إلى الفولكلور أو الانهمام بتشكيل وعي خاص للغة الروائية، ذلك باللجوء إلى تقليص الحوار داخل الفقرات وإدماجه مع بقية العناصر، فالكاتب يحرص على صرامة البناء دون الوقوع في الإسهاب في الحوار، وهو ما ينقض فكرة وهم (الحدث المشهدي)، ويمكن القول إننا إزاء فقرات نصية تبدو فيها المخاتلة لرؤية المشهد بمعناه الاصطلاحي والنقدي المقنن.
وفي حديثه عن المكان والزمن في الرواية، يقول عبد الجبار: وإذا حق لنا النظر إلى حوارية المكان، فيمكن القول إنها رواية عن المكان أو رواية مكان بامتياز، بمعنى أن المكانية هي بداية النص ومنتهاه، ولكن أين الزمن من ذلك؟ نعم إنها ذات هوية مكانية عبر سرد للحياة اليومية، ولكن اللعبة تكمن في الإيغال في استخدام الذاكرة التي تحاول همساً ربط الماضي بالحاضر، فالزمن هنا يستحيل إلى مركب يلتبس بالمكان وينزل فيه، والأخير يحاول أن يصبح الأداة التي تقف في وجه الإساءة وينهض بمسؤولية مواجهة العدم، وهنا تتداخل الأشياء والشخصيات في كيفية الاستجابة لمعطيات الهدم والانمساخ، وهذا ما يحيل المكان إلى وجود أسطوري.
من جانب آخر، تحدّث الناقد أمجد نجم الزيدي في ورقته التي خصصها عن تشخيص الرواية وتجسيدها لكل ما موجود فيها، مبيناً أن الرواية توزعت على مجموعة من المقاطع، أو الحكايات، التي تناوب فيها الراوي مع مجموعة الرواة الأخرين على سرد الحكاية، وهذا الأسلوب البوليفوني، يختلف ربما عن الصيغة المعتادة في الرواية العراقية، حيث تناوب الزمان والمكان والشخصيات الروي، من خلال تحول كل ما موجود في الرواية إلى شخصيات لها وجودها وأثرها في البناء.
كما قدّم القاص والروائي جابر خليفة جابر ورقة اشتغل فيها على المرجعيات الأسطورية التي بنى عليها آل مسافر روايته، فضلاً عن ورقة للناقد عبد الغفار العطوي تحدّث فيها عن آليات الاشتغال السردي في هذا العمل.
|