في منتصف القرن الماضي نشأت تيارات وحركات تتبنى الاسلام منهجاً لها في الحياة، وتسعى لتحكيم مفاهيمه وقيمه في الواقع بجعلها حاكمة على أفكار وممارسات الحاكم والمحكومين، بحيث يكون المنهج الاسلامي هو الحاكم والقائد للدولة والحكومة كل حسب متبنياته في خصائص الحاكم الاسلامي،
بين أن يكون فقيهاً عادلاً كفوءاً، أو يكون عادلاً يسير على ضوء إرشادات وتوجيهات وأوامر وأحكام الفقيه وقد عاشت الحركات الاسلامية مرحلة ذهبية في نمو أفكارها في فترة السبعينات والثمانينات، وقدّمت آلاف الشهداء والمعتقلين والمشردين من أجل تحقيق هذا الهدف، وكان قادتها وأعضاءها يرفضون المساومة وأنصاف الحلول مع الدول القائمة التي يوصفوها بأنها دول كافرة وإن كان الحاكم والجهاز الحكومي ينتمون الى الاسلام التقليدي، ثمّ بدأ العدّ التنازلي في الأفكار والأساليب والمواقف وبدأ التردد والتراجع والنكوص يسري إليها بالتدريج، بعد إن تخلّت عن أهدافها المرحلية والبعيدة حتى أصبح الوصول الى الحاكم غاية عند أغلب هذه الحركات بغضّ النظر عن طريق الوصول، وعن القاعدة الفكرية التي يستند إليها الحاكم.
فبعد تقديم الضحايا والقرابين وبعد إراقة الدماء بالمواجهة المسلحة مع أنصار الحكومات المراد تغييرها تراجع كلّ شيء، تراجع عن الأهداف، وتراجع عن الوسائل، وتراجع عن الآليات، حتى وصل الأمر الى الاستعانة بالدول الكبرى للإطاحة بالحكومات القائمة، بعد أن كانت الحركات تتبنى مفهوم مقاومة الدول الغازية بغض النظر عن طبيعة الحكومة القائمة التي تتعرض للغزو.
ومما يؤسف له أنّ أغلب قادة الحركات صرّحوا بأنّ قيام حكومة إسلامية أمر مثالي لا يتحقق في الواقع.
فما هي الأسباب والعوامل التي أدت الى هذه المفارقات، فقد كانت الثقافة السائدة للتحريض على الإطاحة بالأنظمة الحاكمة مستندة الى ارتباطها بالاستعمار والاستكبار، فقد تحركت الكوادر والقواعد لحمل راية المقاومة المسلحة وضحت بكلّ عزيز ونفيس إلاّ أنها وبعد نهاية المطاف عادت للتعاون مع الاستعمار لإزالة الأنظمة وإقامة حكومة تأتمر بأوامره أو لا تعترض على خططه وبرامجه.
ويمكن تلخيص هذه الاسباب والعوامل بالنقاط التالية:
أولاً: التقدم في العمر
من الحقائق الثابتة إنّ الشباب يعيشون مظاهر الحماس وشدّة الارتباط بالمفاهيم والقيم التي يتبنونها فلا يتنازلون عنها رغم الصعوبات والعراقيل والمثبطات، وهم مستعدون للتضحية من أجلها، ورفض المساومة وإنصاف الحلول.
وهذا الحماس يبدأ بالفتور التدريجي بالتقدّم في العمر.
ومن جهة ثانية فمرحلة الشباب هي مرحلة التسرع وقلة التجربة على عكس المراحل الأخرى، فبالتقدم بالعمر يزداد الوعي وتزداد التجربة بعد مواجهة الواقع بأحداثه ومواقفه المتنوعة، وبالتالي فتبدل وتغيّر الحماس والوعي يساهم في الاستسلام للأمر الواقع.
وهذا ما نراه في الواقع فقادة الحركات الثورية كانت أعمارهم تتراوح بين العشرين والثلاثين وقد دخلوا في الخمسين والستين في هذه المراحل، فوجدوا أن أفكارهم وأهدافهم كانت تتحرك في أجواء مثالية بعيدة عن التحقيق، حيث أنّ قيام دولة إسلامية تصطدم في الواقع، وتصطدم مع مخططات القوى الكبرى التي تتحكم في رسم السياسة الدولية، وقد أدركوا هذه الحقيقة بعد سلسلة من المواجهات قدمت فيها آلاف الضحايا.
ولو كان القادة يعيشون الواقع بعيداً عن الاهداف المثالية، لتعايشوا مع الأنظمة القائمة واتفقوا على أنصاف حلول تحصن أعضاءهم وقادتهم وشعبهم من المآسي والآلام والتضحيات، ولتخلّوا عن أهدافهم في إقامة حكومة إسلامية.
ثانياً: فقدان القدوة
من خلال المواجهة مع السلطات القائمة تقدّم المخلصون والمضحون ليكونوا في مقدمتها، وتأخر غيرهم ممّن لم يكن مستعداً للتضحية فهاجر أو انقطع عن المواجهة، ففقدت الحركات من يتصف بالإخلاص والنزاهة والتضحية من أجل الاهداف، وبقي من هو أقل إخلاصاً ونزاهة وشجاعة، فدبّ إليه مرض المساومة وأنصاف الحلول.
ثالثاً: الاستسلام للواقع الضاغط
بعد سلسلة من المواجهات الدؤوبة اصطدم القادة بالواقع الضاغط، فعاشوا ظروف التعب والملل واليأس لطول الطريق وشدته وتضاعف الآلام والمآسي والصعوبات، فخلدوا الى الراحة والاسترخاء، فتنازلوا عن أهدافهم ليقبلوا بالحدّ الأدنى من المكاسب بعد أن أيقنوا بأنّ أهدافهم لا تتحقق، وانّ الحدّ الأدنى لا يتحقق إلاّ بالمساومة وإنصاف الحلول مع جهات ودوائر دولية.
وقد ساهمت الدول المضيفة للقادة المهاجرين في إقناعهم بشتى الوسائل كالإكراه والإغراء من أجل الاستسلام للأمر الواقع.
رابعاً: الترويض
حينما هاجر قادة الحركات الاسلامية الى خارج بلدانهم عاشوا ظاهرة الترويض التدريجيº ترويض لأفكارهم وأهدافهم، وترويض لأساليب عملهم، وترويض لنفوسهم بالإغراء والتلويح بالانغماس في ملذات الدنيا من مال أو جاه أو تسليط الأضواء الإعلامية على شخصياتهم، وقد انبهر بعضهم بالحضارة الغربية فاقتنع بالتخلّي عن أساليب المواجهة العسكرية في إسقاط الأنظمة، بل أنّ بعضهم تطرّف في الانبهار ليصبح جزءً من اللعبة السياسية، أو أداة لتنفيذ مخططات الدول الكبرى، وبعبارة أخرى أشدّ إيقاعاً وهي العمالة للأجنبي.
خامساً: الابتعاد عن المفاهيم والقيم الإسلامية
ساهمت عدة عوامل في الابتعاد عن المفاهيم والقيم الإسلامية، بعضها ذاتية وموضوعية، والأخرى خارجية، كحب الدنيا بجميع مظاهره ومنه: حب الراحة، وحب الرفاهية، وحب السلطة وقد ساهمت هذه العوامل بالتضافر مع الإيحاءات الفكرية للدول الاستكبارية الى انقلاب المفاهيم والقيم الاسلامية في أذهان ومواقف القادة، كالولاء لغير المسلم، ونفي السبيل، وإعداد القوة لإرهاب أعداء الاسلام، ومفهوم المصلحة الاسلامية، وما شابه ذلك، وهذا الابتعاد جعلهم يعيشون ظاهرة انقلاب المعروف الى منكر، والمنكر الى معروف، فبعد إن كانت مواجهة الاستكبار وعملائه تعبّر عن المعروف الأكبر، أصبحت منكراً بذاتها، وبعد أن كان الاستسلام أو المساومة هي المنكر الأكبر أصبحت معروفاً وموقفاً حضارياً.
فقد تنازلت أغلب الحركات الاسلامية عن أهدافها ومبادئها وقيمها، وقد تكون على صواب في بعض الجوانب، أو أنّ المصلحة هي التي دفعتها الى هذه السياسة الجديدة، وهذا ما لا نعترض عليه، ولكن ينبغي أن لا تنزلق الحركات الاسلامية أكثر من ذلك لتصبح في نهاية الطريق وقد خرجت عن الثوابت الاسلامية بتحول السلطة من وسيلة الى هدف.
فينبغي على قادة الحركات الاسلامية الذين أصبحوا حكّاماً أو قادة حكوميين أن لا يغفلوا عن الواقع، فلازالت الحركات الاسلامية الناشئة تعيش الظروف نفسها التي عاشتها هذه الحركات في الماضي.
فقد عاشوا مرحلة الحماس الثوري والمواجهة الثورية كما عشناها وعاشها الإسلاميون الثوريون في مواجهتهم للواقع الاجتماعي والديني والسياسي، وفي مواقفهم من الحكومة والمرجعية والتيارات الموالية للسلطة، وفي مواقفهم من الاستكبار والاستعمار.
فلا ينبغي التعامل معهم كما كان يتعامل معنا أو تتعامل معنا الأنظمة السابقة، ولا ينبغي تقمص شخصية الحكّام السابقين باتهام المعارضين بالخروج عن القانون أو الارتباط بالدول الأجنبية والمجاورة، أو الاتهام بالإرهاب، وبث الإشاعات أو استثمار الإعلام للتغطية على الحقائق.
ولا ينبغي اتهامهم بالمروق عن الدين لمجرد عدم تقليدهم أو عدم احترامهم للمرجعية التي لا تتبنى المواجهة فقد كنا لا نقلّد المرجعية التي لا توافقنا في المواجهة أو التي لا تسعى الى إقامة حكومة إسلامية، بل كنا نتهمها بشتى التهم من قبيل العمالة وعدم العدالة، وكنا لا نتحرج بإلصاق شتى التهم بها وببطانتها.
إنّ المتصدين بحاجة الى مراجعة ذاتية لجميع الآراء المتبناة ولجميع البرامج والقرارات والمواقف، لتقييم وتقويم المسيرة، لأنّ عدم المراجعة يؤدي الى زيادة الأخطاء أو الإصرار عليها، وينبغي الاستماع الى الرأي المخالف وإن كان يستخدم بعض الأساليب غير السليمة.
وينبغي أن يدرك المتصدّون إن تقمص شخصية الحكام السابقين ليس أسلوباً للعلاج الموضوعي، وليس للتغلّب على المخالفين والمعارضين، فجمع رؤساء العشائر وتوزيع الهدايا عليهم وإصدار بيان ختامي لإثبات تأييدهم ليس أسلوباً حضارياً لعلاج الأزمات، وليس أسلوباً رادعاً للمعارضين.
وإن التلويح بالقوة أو ممارستها بالفعل ليس أسلوباً لإشاعة الأمن والاستقرار، وخصوصاً مع بعض التيارات المعارضة، وقد أثبتت التجارب أن القوة لم تكن وسيلة للحسم.
وليدرك جميع المتصدين أن الظروف قد تجعلهم بعيدين عن السلطة في مرحلة من المراحل، وهو ما أكدته السنن التاريخية، والثوابت الاسلامية الدالة على طبيعة العلاقة بين الإسلاميين والحكّام الأجانب أو ما يسمى بأعداء الدين، وأكدته أدبيات وثقافة الحركات الاسلامية التي توقعت لجوء الاستعمار الى أسلوب التعايش مع الحركات الاسلامية.
فينبغي أن يؤسسوا قواعد كليّة لحماية المواطنين وحماية أنفسهم من قرارات الحكومات المتعاقبة، فقد تستثمر القانون والقوة العسكرية لمطاردتهم ومحاصرتهم مستقبلاً.
وبعبارة أوضح لو أمرت الحكومات المستقبلية قواتها الامنية أو العسكرية طبقاً للقانون بمطاردة المخلصين أو المعارضين أو منع بعض النشاطات الاسلامية، فإنها ستحتج بالقانون لمعاقبة المنفذين المتخلفين عن الطاعة في قمعهم.
ان مراجعة الذات والاعتراف بالأخطاء خير وسيلة للإصلاح والتغيير، وإنّ الاهتمام بالخدمات ورفع المستوى المعاشي للمواطنين، وتوزيع الثروة على أسس عادلة، ومشاركة المواطنين في آمالهم وآلامهم، يسد الثغرات أمام المخالفين والمعارضين، وان الاصحار أو كشف الحقائق بالإجابة عن إشكالات المواطنين والاستجابة لمطاليبهم يساهم في الاصلاح، وإلا فان جميع الاخطاء ستنسب الى الدين، وبالتالي تكون ردود الأفعال متوجهة الى المفاهيم والقيم الدينية.
|