لابد أن ألتقيه، فلقد التصق بذاكرتي تماماً، سأرتضيه أولاً لأفرش بين يديه الحكاية عله يروي لي تفاصيل ما حدث، ومن المؤكد أن تلك القرون التي تفصلني عنه قد أهملت الكثير من التفاصيل المهمة، ولذلك رحت أبحث بين التقاويم علني أستدل له عنواناً وعند جادة تاريخ معلوم وقفت انتظر وإذا به أمامي.
صحت مبتهجاً: جويرية، لكنه لم يعرني أهمية، كررت الاسم جويرية بن مسهر العبدي، حينها استدار إلي، وسألني: من انت؟ لا أعرف لم ارتبكت حينها، وأخذتني رعشة قلق كبيرة، صحت: أنا رجل غريب عن الزمان، جئت استدل الرواية من أهلها، فحدثني أرجوك عن ما رأيت؟
هدأ عندها وابتسم وقال لي: لا تقلق يا ولدي، سأرويها لك بعدما استضيفك في يومي. وبعد برهة صمت، قال بحنكة رجل حرب: بعد يوم النصر في النهروان، صار علينا العودة ونحن نرفل برايات العز والنصر، دخلنا الظهر ناحية براثا..
قلت: أي وصلتم بغداد؟ فأجابني: لم تكن بغداد بنيت بعد، صلى بنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) صلاة الظهر، ثم سرنا نحو بابل، صاح المسلمون حينها: يا أمير المؤمنين، هذا وقت صلاة العصر فلْنصلِ.
استوطن الصمت لحظات الموقف، وسيدي امير المؤمنين ينظر بحزم نحو المسألة، لكنه يخشى علينا وعلى عقولنا أن لا تحتمل ما سيقوله لنا فقال: أنا لا أصلي هنا، فهذه الارض مخسوف بها، وقد خسف الله بها ثلاثا، فلا تحل لوصي أن يصلي بها، ومن اراد منكم الصلاة فلْيصلِ.
ثم سكت برهة وقال لي جويرية: الحرب يعني امتزاج الذوات في بوتقة واحدة، وهذه المسألة صعبة للغاية يا ولدي أن توحد الأمزجة والعقليات والرؤى، وهي نفوس تتباين في الطيبة والإيمان وعقليات لا تقف عند حد ثابت، كل له وجده وإيمانه وطريقة تفكيره، لذلك كانت المسألة غير مدركة عند البعض، فزل به التفكير.
البعض قالوا: إن أمير المؤمنين لا يصلي.. صحت بغضب: الله أكبر، أمير المؤمنين لا يصلي..؟! كيف يفكرون..؟! فأجابني: بل راحوا الى ابعد مما تتصور.. لقد قالوا: انه يقتل من يصلي (ويقصدون اهل النهروان).
أفقدني الغضب أعصابي: يا لله، هؤلاء القوم يستحقون الحرب، ما الفرق بينهم وبين الخوارج؟ استوقفني سؤال مهم فقلت: وأنت يا عماه؟ فأجابني: صحيح اني ذهلت لحظتها بل صعقت فعلاً، ورحت أسأل النفس ما عساي فاعل؟ لكن الايمان بإمام معصوم له طعم آخر، فتبعته بمائة فارس، وقررت أن لا أصلي إلا وهو يصلي، ولأقلدنه صلاتي اليوم، ولم تكن المسافة قليلة، ومن الطبيعي أن يفوتنا وقت صلاة العصر.
وبعد خروجنا من ارض بابل مباشرة، وجدنا ان الشمس فعلاً قد تدلت الى الغروب، ثم غابت واحمر الأفق.. كان الامام علي (عليه السلام) ينظر اليه وكأنه يقرأ ما يدور في رأسي، التفت إليّ وهو يقول: يا جويرية، هات الماء.. وقدمت اليه الاداوة فتوضأ ثم قال: أذّنْ يا جويرية.. فاعتمرتني حيرة لحظتها: هل سأأذّنْ للعصر أم للعشاء؟ فقال (عليه السلام) وكأنه يجيب ما يدور في رأسي: أذّنْ العصر يا جويرية.. كبرت هذه المرة حيرتي داخل روحي، كيف أأذّن العصر، وقد غربت الشمس؟ فعليك أن تدرك يا ولدي، ماذا يعني أن تعمل بإمرة امام معصوم، يعني أن تترك جانباً ما يعنيك، وكل الأمر الذي هو عليك أن تطيع فقط؛ لأنك تعمل بإمرة إمام معصوم، فلذلك أذّنت.
فقال لي: أقم.. ففعلت، وإذا أنا في الاقامة إذ أسمعه يحرك شفتيه بكلام لم أفهم منه شيئا، وإذا بالشمس ترجع يا ولدي، وأنا انظر اليها بعيني، وهي ترجع بصرير عظيم حتى وقفت في مركزها من العصر، فقام (عليه السلام) وكبر وصلى وصلينا وراءه، فلما فرغ من صلاته، رأيت الشمس وهي تقع كأنها سراج في طشت، وغابت واشتبكت النجوم، فالتفت إليّ مولاي؛ ليرى بعيني الدموع، وقال: أذّنْ العشاء يا جويرية، ولا تكن بعد اليوم ضعيف اليقين.. أردت أن أسأله المزيد من التفاصيل، لكني رأيت الدمع يسبح في وجنتيه، فاستودعته بالسلام ومضيت. |