• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : أبو موسى الأشعري .
                          • الكاتب : محمد زكي ابراهيم .

أبو موسى الأشعري

  لم يكن أبو موسى الأشعري نموذجاً متفرداً في عصره، والعصور التي تلته. ولم يكن هو الوحيد الذي جنى على أصحابه، وتمرد على قادته. كان هناك على الدوام أناس استغفلوا في لحظة ضعف، ثم انتهى بهم المطاف إلى العزلة.

كان عبد الله بن قيس، وهذا هو اسمه، قد أسلم في مكة، قبل الهجرة بوقت قصير. ثم عاد إلى موطنه في اليمن. وهناك تمكن من جمع بضعة وخمسين شخصاً سار بهم في سفينة للالتحاق بالمسلمين الأوائل. لكن السفينة جنحت بهم نحو الحبشة، وكان فيها جعفر بن أبي طالب ورفاقه. فأقام فيها سنوات قبل أن يقرر المهاجرون جميعاً العودة للحجاز بسفينتين اثنتين. فوصلوا المدينة بعد فتح خيبر، وشاركوا في المعارك التي خاضها الرسول (ص) بعد ذلك.

أبو موسى الأشعري إذن كان من ذوي الهجرتين، وله الفضل في إسلام رهط غير قليل من مواطنيه. وحينما اندلعت "الفتنة الكبرى" في عهد عثمان مال إلى جانب خصومه. وفي هذه الحقبة ولي إمارات عديدة منها البصرة والكوفة ولمع اسمه بين الصحابة. فلما قتل عثمان كان أبو موسى الأشعري في صف الإمام علي (ع) ضد معاوية وأهل الشام.

تاريخ مجيد دون شك. لكن الرجل راح ضحية شعوره بالزهو بعد أن حظي بمباركة جمع غفير من المقاتلين، ليترأس الوفد المفاوض في جلسات التحكيم. وخيل إليه فجأة أنه أصبح الشخص المفضل لأهل العراق، وبيده الحل والعقد. لم تكن وسائل الاتصال في ذلك العصر مؤمنة كما هي اليوم، ليستطيع أبو موسى الاتصال بالخليفة، فراح يحكم برأيه. وقبل في لحظة يأس أوصله إليها خصمه عمرو بن العاص، أن يطيح بسيده هذا، مع أن كفة جيشه هي الراجحة، وأصحابه هم المنتصرون. فكان ذلك إقراراً بهزيمة غير متوقعة قبل بها هو، وطار بها فرحأً مفاوضه ابن العاص. ولم ينجز الأخير ما وعد به، فعاد أبو موسى مدحوراً إلى الكوفة، ليموت بعد استشهاد سيده ببضع سنين، وربما كان ذلك عام 44 للهجرة.

لم يكن أبو موسى الأشعري مذموم السيرة أو متهوراً في سني حياته، حتى أن صحابياً مثل الأسود بن يزيد النخعي قال عنه "لم أر بالكوفة أعلم من علي وأبي موسى". والمبالغة واضحة في كلام الأسود هذا، ولكن دلالاتها واضحة للعيان.

ثمة من يتصور أن بإمكانه، وقد منح تفويضاً من مواطنيه، أن يحكم برأيه، ويتخطى الملايين التي وضعت ثقتها فيه. وربما كان يبتغي وجه الحقيقة. لكن الواقع أن السياسة منذ أيام أبي موسى وحتى اليوم، تمتلك وجوهاً عدة، ولا تقف عند واحد منها أبداً. وهي في النهاية لا ترحم المخطئ، ولا تلتمس له العذر.

تجربة أبي موسى الأشعري تجربة غنية دون شك. وهي وإن انتهت إلى هزيمة كبرى له ولناخبيه، فإنها أثبتت أن رجل السياسة إذا لم يتحل ببعد نظر، ورجاحة عقل، وثبات مبدأ، فسيتحول إلى سبب للفرقة وأداة للانقسام.

لقد مات أبو موسى الأشعري بعد أعوام قليلة من واقعة التحكيم، ولكن ما انجر إليه، مايزال مؤثراً حتى هذه اللحظة. وماتزال الفرق التي خرجت عنه تتبادل في ما بينها الشكوك وتجترح التهم وتصطنع العداء. وليس ثمة ما يوحي أنها سائرة إلى وفاق بعد أربعة عشر قرناً من الحادث، وربما لا تجد طريقها إليه في يوم من الأيام!




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=90173
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 03 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14