في ستينات القرن العشرين، اجتاحت الساحة الثقافية، إصدارات كثيرة في حياة شعراء ، ونماذج من أشعارهم ، مثل الرصافي، و أحمد شوقي، و إيليا أبي ماضي، و محمد الفيتوري، وغيرهم، وبالخصوص الشعراء الذين توقف نتاجهم بسبب تركهم مباهج الحياة وانتقالهم إلى الرفيق الأعلى، وقد كانت تلك المؤلفات خير معين للطلاب الذين يكتبون البحوث والدراسات الأدبية، لما يتطلبه منهاجهم الدراسي، كل حسب مرحلته. وإذا ما اتهمت تلك المؤلفات، من هذا الطرف أوذاك ، بسهولة التأليف، وهي ليست كذلك ، فالحداثة، ومابعد الحداثة ، قد أضعفت ذلك النشاط، واختصرت ساحته إلى اختيارات دقيقة جداً، أوجدت لها مكاناً في تاريخنا الأدبي ، ومنها على سبيل المثال ماحبره السيد باقر ياسين في مؤلفه الموسوم(مظفر النواب.. حياته وشعره) لحاجة القارئ أن يطلع على حياة الشاعر مظفر النواب، لأنها أنتجت تلك الروائع التي أمطرها علينا شاعرنا الثائر، وما يزال. ولا غرابة، أن يهتم الدكتور سعد الحداد بحياة الشاعر محمد علي النجار وشعره وهو الذي عودنا على الجدية في التقاط نفائس الأدب في مدينته الحلة الفيحاء، لما لهذا الشاعر من مكانة في إحياء (التاريخ الشعري)، الذي هو لون من ألوان شعرنا العربي الأصيل، خاضعاً لقيود أصعب من قيود القافية التي لم يتحرر منها أيضاً ، مثلما تحرر منها الشعر الحديث. وإذا كان اهتمام الفنان حسام الشلاه، منصباً في تسليط الضوء على دور الشاعر السيد محمد علي النجار في إحياء فن (التاريخ الشعري) بجمعه شعر السيد النجار الخاص بذلك، وإصداره بعنوان (ديوان التاريخ الشعري للشاعر السيد محمد علي النجار)، الذي طبع بطبعات متلاحقة ( الأولى عام 2009 م ، والثانية عام 2010 م ، والثالثة عام 2011 ، وهو في العداد لطبعة رابعة) لأهميته. أقول إذا كان اهتمام السيد الشلاه بذلك، فان اهتمام الدكتور سعد الحداد انتشر على مساحة كافة فنون الشعر، التي برز فيها السيد النجار، برغم رفض الشاعر من تسليط الضوء عليه، فهو من الشعراء الذين يقول فيهم الدكتور سعد الحداد (أجد كثيراً ما يبعث على الحزن حتى أرى عدم اهتمام بعض شعرائنا بما هم أحق بحفظه وان بعضهم آثر عدم الظهور والشهرة وظل بعيداً عن الأضواء) ص 11.
يعرفنا الدكتور الحداد بالشاعر فيقول انه (السيد محمد علي بن محمد بن حسن بن مراد بن درويش) الذي ينتهي نسبه إلى الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، وانه ولد عام 1922م، في بيت (يوقد أهله كل ليلة جمعة سراجاً كبيراً تبركاً بأصحاب القبر) بنات الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أجمعين، حيث يقع البيت في محلة المهدية التي هي واحدة من محلات مركز مدينة الحلة. فرش الدكتور الحداد المادة التي جهد في متابعتها وتدقيقها وتمحيصها على مساحة (128) صفحة من القطع الوزيري، فبين لنا بمقدمته، عشق الشاعر النجار لمدينته الحلة الفيحاء، فتغنى بها، وأبدع في تصويرها فقال فيها:
بلادي هام قلبي في هواها
ولا أبغي مدى عمري سواها
ولدت بأرضها ودرجت فيها
وجسمي قد تكون من ثراها
وكما هي منهجية الكتب التعريفية، فقد عرفنا الدكتور الحداد بنسب الشاعر ونشأته، وأوضح لنا نشاطه التجاري، ثم أفرد موضوعاً بعنوان (قالوا في مدحه والثناء عليه) ، ليبين للقارئ مكانة الشاعر السيد النجار بين أدباء مدينته، وأبنائها فيقول فيه الحاج محمود مرجان:(اديب موهوب وشاعر مقتدر منحه الله مجموعة من المواهب والقدرات الأدبية التي كانت وما شاهدت بعيني وسمعت بأذني مثار إعجاب وتقدير شيوخ الأدب والشعر في الحلة ) ص34، وللشاعر المرحوم صبري عبدالرزاق السعيد قصيدة يصف بها الشاعر السيد النجار فيقول:
دمت للشعر والبيان أميراً
أنت فخر الملوك والأمراء
وحين اطلع الدكتور غني عبود البيرماني على شعره وموشحاته قال فيه:(إيليا أبي ماضي الحلة). وأعلمنا الدكتور الحداد بأن السيد النجار كان (يبتكر المبادأة ويخلق المبادرة ) في الندوة المرجانية التي خلقت حراكاً شعرياً ( أنتج أدباً مهماً يؤرخ لمدة زمنية من تاريخ المدينة والبلد) ص38 ، فيقول النجار:
مواهب الشعر في الفيحاء كامنة
تطفو على السطح أحياناً وأحيانا
فندوة الشعر صارت خير نافذة
نطل منها على أرجاء دنيانا
وربما يحسن التعبير شاعرنا
فيرسل الشعر أنغاما والحانا
وتحت عنوان (رأيه في الشعر) يقول الدكتور سعد: (ظل السيد النجار ملتزما بعمود الشعر لاعتقاده الراسخ بما للشعر من منزلة لدى العرب) ص41 ، فالشعر في مفهوم السيد النجار (يشبه المعدن الأصيل، كلما أجليته أعطاك بريقاً ولمعانا) ص43. أما في شاعريته فيقول الحداد:(السيد النجار شاعر فطري اكتسب أدواته من مجموع خبرات متراكمة وقراءات مستمرة متنوعة أثرى خلالها بكم هائل من خزين ثقافي وحياتي ساعد في ذلك امتلاكه لحافظة قوية ممتلئة متجددة تستدعي مبتغاها بسرعة فائقة مقرونة بأمثلة مترادفة) ص46. وقد افتتح الدكتور الحداد الاغراض الشعرية للسيد النجار بالتاريخ الشعري، لما تميز به من قوة وإبداع، حتى نستطيع القول :( بشعرالسيد النجا ر.. التاريخ الشعري يحضر باقتدار)، فمن إبداعاته، تأرخة وفاة الشاعر الكبير محمد مهدي ألجواهري، بشطر بيت اقتبسه من شعر الجواهري نفسه فيقول وجدت لتاريخه شاهدا:(فداء لمثواك من مضجع)
وفي تحويل الحروف إلى قيمها الحسابية ( 311 00+86+ 597+90+913 ) نجد أن تاريخ وفاة ألجواهري في عام 1997م.
ومن روائعه البديعة، تأرخة وفاة الدكتور الشيخ أحمد الوائلي بقوله:
أنا إن بكيت خطيب آل محمد
ومدامعي سالت من الأحداق
كررت أحمد حين قلت مؤرخاً
(يفنى الزمان وذكر أحمد باقي)
وعند تحويل الحروف إلى قيمها الرقمية (53+150+129+926+53+113) نجد إن وفاة الدكتور الوائلي في عام 1424هـ . وللسيد النجار في المديح موطناً ليس للتكسب ، (إنما عرفاناً لجميل أو تثبيتاً لحق في إظهار الممدوح على هيئته الحقيقية ومنزلته) ص 65. وكما له في المديح، له في الرثاء فيقول في الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)
فأقمت دين محمد في كربلا
وجعلت منها كعبة الزوار
لولاك لانطمست معالم دينه
ولأصبحت أثراً من الآثار
والدكتور الحداد إذ يعرف القارئ برثائيات السيد النجار فيقول:(كلمات يصوغها ليعير بها عن عواطفه من خلال استذكار المرثي وسرد ما يعن له من ذكريات ومواقف مسبوقة بمقدمة حكيمة وعظية عن ثنائية الحياة والموت) ص73. والنجار كفرد من أفراد المجتمع، إن لم نقل كغيره من الشعراء، يحس، ويتألم، ويشكو، من جور الزمان وزيفه، سواء لشخصه، أو لغيره، فنجده (يطلق شكواه صريحة ضد الحروب التي أحاقت بالعراق وأهله نابذاً لها ولمن كان السبب في إضرام نيرانها التي أحرقت خيرات البلد وجلبت الشقاء لأهله...
فيدعو الله أن يحرق بناره كل آثم أطلق لها العنان ) ص77 ، فيقول:
رحماك يارب البشر
قد حاق بالناس الخطر
ربح الحروب خسارة
حتى لمن فيها انتصر
يارب لاتبق على أهل
الشرور ولاتذر
واحرق بنارك كل من
جلب الشقاء إلى البشر
وحيث أن الاخوانيات (غرضاً شعرياً يجسد فيه الشاعر وفاءه وإخلاصه لقريب أو صديق ) ص81 ، فقد كان للسيد النجار من الاخوانيات، ما امتازت بالوضوح ورقة المفردة، وعذوبة المعنى، فكانت له أشعاراً في التوديع، والاستقبال، والتهنئة في المناسبات المفرحة، مثل الزواج، والإنجاب، والنجاح، والمناسبات الدينية. وكما للسيد النجار من قدرة عالية في إحياء (التاريخ الشعري)، كان له الدور في العودة إلى الموشح الذي استحدثه الأندلسيون، ولقي رواجاً وانتشاراً في القرنين السابع والثامن الهجريين، فأوجد لنا روائع من الموشحات التي أطلق عليها (الموشحات الحلية)، فيصفها الدكتور الحداد قائلا:(لقد اتسمت موشحات النجار بطلاوتها وحسن سبكها) ص87 ، فيقول السيد النجار في موشح (لم يمت من بقيت آثاره):
أيها السائر في بحر الهوى
سالكا في موجه الملتطم
كم فتى قبلك فيه قد هوى
وبدا يقرع سن الندم
وبعد أن أظهر الحداد، قوة شاعرية السيد النجار، في التشطير، والتخميس والمعارضات، والتقاريض، من خلال تحديد المعنى لكل غرض منها، ونشر الأمثلة الشعرية الجميلة، ينتقل إلى فرش قصائد من روائع شعر النجار، الذي نحن بانتظار إصدار ديوانه الشعري، من قبل من تبنى جمعه وطبعه، فذكر لنا قصيدة (حديث مع النجوم)، مطلعها:
أرق دائم ونوم قليل
وحديث مع النجوم طويل
ثم قصيدة (جئت أرجوك) وقصيدة (الشعر لسان الزمان) وبعدها قصيدة (الشعر موهبة )، التي يقول فيها:
الشعر موهبة إن روعيت ظهرت
أو لا فراقدة مابين رقّاد
كما اختار الحداد لقارئه قصيدة (صدى الذكريات)، وقصيدة (ندوة الشعر)، ثم (ربة الشعر). وقبل أن يختم الحداد اختياراته بقصيدة (سفينة المساكين) كان قد اختار قصيدة (وخير المجد ما جلب انتفاعا) التي مطلعها:
كفى يانفس في الناس انخداعا
لقد كشفوا عن الوجه القناعا
وقصيدة (أرى كل إنسان لديه طبيعة) ، التي يقول فيها:
لكل أناس عادة وهواية
فأهل النوادي غير أهل الصوامع
ولاتستوي الأخبار بين رواتها
فليس براءٍ حادثاً مثل سامع