ليس من المعقول أن يتعامل المجتمع المسلم، ناهيك المجتمع العالمي، مع الحركات الإسلامية بنفور واشمئزاز وتعالٍ وسخرية لكأنها قادمة من كوكب المريخ أو الزهراء. كما أنه ليس من المعقول أن تُبقي الحركات الإسلامية على منهاجٍ منتهية صلاحيته وترفض مع ذلك الإصغاء إلى غيرها حتى تصبح قادرة على الاندراج ضمن حركات التحرر الوطنية والقومية والعالمية، إن لم نقل قادرة على الإدلاء بدلوها الثقيل في صلب تلكم الحركات. فما الذي ينبغي على الحركات الإسلامية تصحيحه بشأن المنهج المتوخى والذي لم يجلب لها سوى النقد والانتقاد والنفور والاشتباه؟
أولا، لا بد على الإسلام السياسي والأصولي والحَرفي والراديكالي، وكل الأطياف مجتمعة، أن تبجل الله على الإسلام. فالله هو الذي جاء للإنسانية بالإسلام وليس العكس. وتمادي هذه الأطياف في التكلم بالإسلام يعطي انطباعا معاكسا للنية الأصلية: لكأنها تتكلم باسم الله لا سمح الله. بينما لو أدركَت معنى أن تبجل الله لفهمت هذه الحركات أنّ الله جامعٌ بين كل العباد، المسلمين منهم وغير المسلمين، مما سيستأثر بعناية كل التواقين إلى الحرية من بين أمم العالم الذين يعيشون أزمة وجودية جدّ حادة.
ثانيا، حريّ بالحركات الإسلامية أن تدرك أنها، على عكس ما تدّعيه، لا تقتدي بالمنهاج القرآني ولا بالمنهاج النبوي الشريف في الدعوة والإرشاد والجهاد من أجل التغيير. فالمنهاج الأصلي توخَّى تبليغ الرسالة القرآنية في زمن كانت فيه هذه الرسالة الأصلية دخيلة على الأذهان. بينما اليوم فالرسالة الأصلية راسخة في الأذهان منذ 15 قرنا. لكن الذي ليس راسخا، بل ليس موجودا، والذي لم تستسغ الحركات الإسلامية دلالته، إنما هو الرسالة الآنية الصالحة لهذا الزمان ولهذا المكان. والخلاصة أن لا يمكن أن تنجح دعوة في هذا العصر بمحتوى رسالة تنتمي إلى عصر آخر، ناهيك أنها رسالة مكتسبة بعدُ. كما لم يكن من الممكن أن ينتشر الإسلام المصدري بفضل فحوى رسالة من العصر الحاضر، عصر الحداثة. لذا من الضروري أن تُصاغ رسالة العصر الحاضر حتى يكون وجود المسلمين حداثيا. والمادة الأولية متوفرة للراغبين في صنع هذه الرسالة طالما أنّ جوهر الإسلام راسخ في البنى الشخصية وفي بنى المجتمع. فلِم "نبحث عن منتصف النهار والحال أنّ الساعة تشير إلى الثانية بعد الزوال" كما يقول المثل الأجنبي؟
ثالثا، لا يمكن أن تُقنع الحركات الإسلامية الآخرين، غير المسلمين، لا بنيّتها التحررية ولا بالفكرة التي تحملها عن التحرر الإنساني عموما، بغير أن تبجّل تقديم فكرها السياسي على عقيدتها. فالدعوة لاعتناق العقيدة الإسلامية شيء و الدعوة للتحرر من منطلق العقيدة شيء ثانٍ. العمل الأول يقوم به دعاة متخصصون وينجزونه لدى المجتمع غير المسلم، لا كما هو متداول، لدى المجتمع غير المسلم وحتى لدى المجتمع المسلم أيضا. والعمل الثاني يقوم به نشطاء سياسيون يميزون بين الفكر السياسي وبين العقيدة التي تمخّض عنها هذا الفكر. وما الذي سيسهل هذا الصنف من التمييز الذي سيسمح بانخراط الناس كافة في حركة إسلامية إنسانية غير علمنة (من عِلم) السياسة الشرعية المنبثقة عن العقيدة والمميَّزة عنها؟ وأقصد بالعلمنة تخصص الفكر الإسلامي، من فكر إسلامي مطلق إلى فكر هندسي وآخر طبي وآخر صيدلي وآخر قانوني وهلم جرا؛ نزولا إلى المنبع والمرجع ألا وهو الفكر الإسلامي اللغوي. فالملاحظ أنّ الفكر الإسلامي المتداول يتسم بالدوغمائية لأنه يفتقر إلى هذا الصنف من الدمج التفاعلي بين العقدي والعلمي (الدنيوي). واللبنة المرغوب تكوينها من طرف المنظرين المسلمين لتكون قاسما مشتركا بين الإنسانية قاطبة إنما هي المحصلة العلمية التي تتولد عن الدمج التفاعلي. ولا شيء يحول دون الفكر الإسلامي المتخصص والشمولية المنهجية الإيجابية.
في نهاية المطاف يتلخص الفقر في الثقافة الإسلامية المعاصرة في غياب البعد الثالث. وهو بعدٌ يتطلب اجتهادا ثالثا، لا إسلامويا ولا علمانيا. "الله فالرسالة فالعلم" أو بالأحرى "الله فالعلم فالرسالة" معادلة مركزية في مسار الولوج في الحقبة المعاصرة الثالثة. فلمّا نضمن تصحيح الموقف من الإسلام فنتحول من مؤمنين بالدين إلى مؤمنين بالله جل وعلا من باب أولى ثم بالدين، ولما نضمن تصحيح الموقف من الرسالة فنتحول من عدائين يتسابقون مع الزمن في اتجاه الزمن إلى كادحين يُجارون الزمن الحقيقي، و لما نُعلمن الفكر الإسلامي، نتحول من خصوم في ما بيننا في داخل المجتمع المسلم إلى متبارين في سباق الجهاد الفكري والسياسي والتحرري. كما تتحول مجتمعاتنا المسلمة من كيانات مشبوهة على الصعيد العالمي إلى تكتلات متشاركة ومتعاونة مع العالم كافة والإنسانية قاطبة.
محمد الحمّار
هذا جزء من كتاب بصدد الإنجاز: "إستراتيجيا النهوض بعد الثورة"
|