كانت الثورة التونسية فرصة سانحة لتسهل معاينة ما معنى أن يكون منهج العبادة مقلوبا رأسا على عقب . فبمجرد أنّ النخب لم تعِ أنّ مَن قاموا بالانتفاض ضد الحكم المستبد إنما هم مسلمون لا محالة، وبمجرد أنّ تلك النخب باختلاف ألوانها وأطيافها تتعنت في سحب الثورة على الشعب على قدر تعنتها في نكران صفة المسلمين على صانعيها، فإنّ شيئا ما في علاقة المجتمع بالدين لا يشتغل كما ينبغي.
والذي لا يشتغل كما ينبغي هو بالضبط كل الجهاز العاطفي والرمزي والعقلي الذي بواسطته يتسنى للعقل المجتمعي تقييم الفعل والحكم له أو عليه بصفة الإسلام، من بين صفات أخرى. فإذا كان لا بدّ أن تُحسب حركة مثل حركة الثورة في تونس ثم في مصر ثم في بلدان عربية أخرى على أنها جرت خارج التاريخ، يصحّ القول إنها ليست إسلامية. لكن لمّا كان العالم بأكمله شاهدا على أنّ الثورة ثورتنا (بالرغم مما يقال هنا وهناك عن ضلوع القوى الأجنبية في بعض جوانبها)، فليس من المعقول لا إنكار تاريخيتها، لا إنكار إسلامية الشعب الذي حققها، ولا إنكار تأثيرها وتأثير ثقافة القائمين بها على مجرى الأحداث في العالم بأسره. وإن تم الإنكار، وقد تمّ فعلا، فذلك دليل قاطع، لا على تأخر الإسلام ولا على تقدم القوى "التقدمية" (بما فيها الإسلام السياسي) وإنما على تخلف المسلمين، على غرار عقل نخبهم، إزاء الواقع وتحولاته السريعة.
ذلك الوجه الأول للانقلاب المنهجي. وأملي أن يعي الشعب إلى أي مدى كان تحركه ثوريا، حتى يتمكن من قلب جهازه التقييمي ليعيده إلى وضعه الصحيح؛ "على رجليه". ولن يتم التصحيح التقييمي إلا بتصحيح الوضع العقدي الذي ينبغي أن يعود من باب أولى إلى وضعه الأصلي؛ "على رجليه".
إذن فالوجه الثاني للانقلاب يخص العقيدة. و ينطوي على عديد الأفعال التي تجسد معنى الانقلاب. لننظر على سبيل المثال المواقف المقلوبة مقارنة بمبدأ الرغبة في ما عساها أن تكون: يتهافت الناس على المحرمات مثل شرب الخمر أكثر من تهافت من شرب الخمر عندهم ليس حراما؛ يعتبر المجتمع الذكوري الممارسة الجنسية قبل الزواج من أعظم الإنجازات لديه، بينما يعتبر الزواج بغير العذراء إما إخلالا بواجب ديني أم تفريطا في حق ديني؛ عندما تتعطب آلة أو دراجة أو سيارة أوغيرها من المَرافق، ولم تعُد تليق بالاستعمال من طرف مالكها، عادة ما يلوذ هذا الأخير بترقيعها كيفما كان الحال وتصليحها بأبخس الأثمان لكي يبيعها مقابل أضعاف كُلفتها الحقيقية (أمتنع عن استعمال اللفظة بالعامية التي تجسد هذه العقلية، لأن اللفظة جدّ نابية رغم دلالتها الأمينة). والذي يليق في مثل هذا السلوك أنّ صاحب الآلة أو البضاعة يستعمل الغش عنوة لكأنه سلوك من الإسلام لا سمح الله. زد على ذلك فهو يكره لغيره ما يحب لنفسه. وهو بذلك يتصرف على عكس ما جاء في القرآن والسنة والحديث من سلوكيات. والأمثلة على الانقلاب لا تحصى ولا تُعد.
والانقلاب الذي نشهده عند عامة الناس يُترجَم عند الفقيه في حرص هذا الأخير على طريقة استنباط الأحكام الشرعية (من الأصول) بينما الواقع والطبيعة يشتملان على سنن وقوانين ونواميس قلّ وندرَ أن يلتفت إليها الفقيه، فقيه الواقع، ليستقريها. علما وأنّ الاستقراء المطلوب والمتمثل في تجريب تلك الأصول الواقعية (سنن وقوانين ونواميس) وفي التثبت منها يتم لا محالة في ضوء الشريعة وفي ضوء معالمها. والاستقراء عكس الاستنباط، بما أنّ الأول استدلال قَبلي من الأصل النظري أي قبل التجربة، بينما الثاني استدلال بَعدي أي حسب التجربة وبَعد التجربة.
في النهاية يمكن اعتبار الاستنباط منهجا مقلوبا، لا بسبب علةٍ فيه وإنما بسبب رفض أصحابه، وسائر النخب من أصحاب العلوم الدنيوية، الاستئناس بالاستقراء، إن لم نقل التكيّف المكثف مع مستلزماته. وليس من الصدفة أن يكون أصحاب الاستنباط منتمين إلى المحافظين، سواء من بين العامة أو غالبية الفقهاء وعلماء المذاهب والجماعات مثل السلفية والأصولية والإسلامية السياسية. والمنشود أن يُغيّر العلماء ما بِطُرُقهم حتى يغيّر جمهورُ المسلمين ما بأنفسهم و يُغيّر الله ما بالجميع. والله أعلم.
محمد الحمّار
كانت هذه الحلقة (7) من كتاب "إستراتيجيا النهوض بعد الثورة".
|