(تكملة كلام الاستاذ يحيى محمد) ... مشكلة تقدم الاعيان الثابتة على الوجود: لقد افترض الفلاسفة الذين قالوا باصالة الوجود في الممكنات ان هذا الوجود تسبقه الماهيات المعبر عنها بالاعيان الثابتة، لكن السؤال المطروح، هو كيف يجوز ان تتقدم الماهية على وجودها، مع ان التقدم يعطي لها بعداً من الكمال؟ باعتبار ان الاخس لا يمكنه ان يكون قبل الاشرف بحسب منطق السنخية، وبالتالي فان الاشرف هو اولى بالوجود من غيره. وقد يبدو لأول وهلة ان الفلاسفة لا يترددون في وصفها بالوجود الذي يصحح مسألة تقدمها وكمالها، وكما وصفها صدر المتألهين بانها وإن لم تكن موجودة برأسها لكنها مستهلكة في عين الجمع، وهذا الاستهلاك هو نحو موجوديتها. كما وصفها ايضاً بانها وإن لم تكن في الازل موجودة بوجوداتها الخاصة الا انها كلها متحدة بالوجود الواجبي، واعتبرها بهذا القدر قد خرجت عن كونها معدومة في الازل، دون ان يلزم شيئية المعدوم كما زعمته المعتزلة. لهذا كانت بنظره عبارة عن صور كمالات الحق تعالى ومظاهر اسمائه وصفاته ، او انها تمثل المجالي والمظاهر التي تتجلى فيها صفات الرب وظهور اسمائه. او هي كما عرفها حيدر الآملي ‹‹من شئونه الذاتية التي هي عبارة عن كمالاتها الغير المتناهية الكامنة في ذاته المسماة بالصفات والاسماء والكمالات والشئون››. وهي من هذه الناحية تمثل معلومات الله الازلية وصوره العلمية التي لا يجوز ان توصف بكونها مجعولة لكونها معدومة في الخارج. او باعتبارها قوابل للتجليات الالهية والاسمائية، بالتالي فانها ليست بجعل جاعل. فبهذه الاعتبارات يمكن ان يقال: كيف لا يكون للاعيان الثابتة وجود، وهي التي تمثل موضع الشهود العلمي المعبر عنه بالفيض الاقدس والمخاطبة بخطاب (كن)، فهي منتسبة بهذه الجهة الى حضرة الوجود، ومستفيضة منه الوجود الآخر العيني المعبر عنه بالفيض المقدس، والذي يعتبر محض الاضافة الاشراقية، فكيف لا يكون لها وجود اعظم من الوجود الخارجي الذي تظهر به في فيضها الآخر المقدس ؟ وهي قد سميت بالفيض الاقدس بمعنى الاقدس من شوائب الكثرة الاسمائية ونقائص الحقائق الامكانية ، خاصة انها تمثل صوراً علمية، والصور لدى الفلاسفة من طبقة صدر المتألهين احق بالوجود من غيرها. كيف لا وقد اقر هذا الحكيم بان للاشياء وجوداً الهياً كما لها وجود عقلي ومثالي وطبيعي، فذلك الوجود هو عين صور الاشياء كلها؛ كلّيها وجزئيها وقديمها وحادثها، وهو الذي اعتبره اولى ان يكون نفس الامر دون ان يلزم ثبوت المعدومات، فالمعدوم المحال لديه هو انفكاك الشيئية عن الوجود مطلقاً، لا انفكاكها عن الثبوت الخارجي مع تحققها بالوجود الرباني وظهورها فيه. بل كما سنرى ان الاعيان الثابتة تكون في رتبة الذات الالهية الاحدية هي الفاعل والقابل للموجودات، وهي خالقة كل شيء، كالذي ذهب اليه العارف حيدر الاملي والذي يتفق مع مذاق صدر المتألهين. وواقع الامر ان الفلاسفة تارة يضفون على الاعيان نوعاً من الوجود يصحح كمالها وتقدمها، واخرى ينفون ذلك عنها. فهي من حيث الاعتبار الاول لا تخرج عن الوجود الالهي، بل انها ذات الشهود العلمي الالهي وفيضه الاقدس، وبكلها تمثل عينه وان كانت غيره من حيث التعين والتقيد. لكنها من ناحية اخرى عُدت في حيز الامكان العدمي ما شمت رائحة الوجود ازلاً وابداً. وكما قرر صدر المتألهين بأن الماهيات قبل الوجود لا يمكن الحكم عليها بشيء من الاشياء، ولا حتى الحكم عليها بثبوت نفسها لها، اذ لا ظهور لها ولا امتياز فيما بينها قبل الوجود، انما بالوجود تظهر الماهيات المظلمة الذوات على البصائر والعقول، وبسبب الوجود المعقول او المحسوس يمكن الحكم عليها انها هي هي او ليست الا هي، أما هي لذاتها فليست موجودة ولا معدومة ولا ظاهرة ولا باطنة، ولا قديمة ولا حادثة. فجميع السلوب صادقة في حقها ازلاً وابداً، فلا لا ذات لها حتى يثبت لها شيء من الاشياء، وبالتالي فان ارتفاع النقيضين انما يستحيل عن الشيء الموجود من حيث كونه موجوداً لا من حيث كونه غير موجود. ومن ثم فالحكم على الماهيات ولو كان باحكامها الذاتية واوصافها الاعتبارية السابقة الازلية من الامكان والبطون والظلمة والخفاء والكمون واشباهها انما يتوقف على انصباغها بصفة الوجود واستنارتها به. لذلك يقول بعض اهل الكشف بان الماهيات لم تظهر ذواتها ولن تظهر ابداً، بل يظهر احكامها واوصافها، وما شمت رائحة الوجود اصلاً. ويوضح صدر المتألهين مراده من امر حقيقة هذه الاعيان تارة فلسفياً بعلاقتها بالوجود، واخرى عرفانياً بعلاقتها باسماء الله. ومن حيث العلاقة الاولى اعتبر ان لشيئية الممكن وجهين، هما شيئية الوجود وشيئية الماهية، وتمثل الشيئية الاولى ظهور الممكن في مرتبة من المراتب وعالم من العوالم. في حين تمثل شيئية الماهية نفس معلومية الماهية بنور الوجود، وانتزاعها من دون تعلق الجعل والتأثير بها، وكذا من غير انفكاك هذه الشيئية عن الوجود، فلا تعني موجودية الماهيات ان الوجود يصير صفة لها، بل ما يحصل هو انها تصير معقولة من الوجود ومعلومة منه، فيكون المشهود هو الوجود والمفهوم هو الماهية، وبذا تمتاز شيئية الممكن عن الممتنع، وتتقبل الفيض الربوبي وتستمع أمر (كن) فتدخل في الوجود بامر ربها. فالاعيان الثابتة مستعدة في ذواتها وحال عدمها لقبول الامر الالهي اذا ورد عليها الوجود عبر تلك الكلمة، كما في قوله تعالى: {انما قولنا لشيء اذا اردناه ان نقول له كن فيكون} النحل/40، حيث بها تكونت وظهرت في الاعيان الخارجية. هكذا ان شيئية الماهية للممكن وثبوتها للامر الواجبي والفيض الالهي هو ظهور احكامها بنور الوجود لا اتصافها به. ويؤيد هذا الذي ذكره صدر المتألهين هو ان الممكنات عند العرفاء والصوفية ليس لها الا الشيئية الثبوتية، لا الشيئية الوجودية الا مجازاً، ولاجل ذلك لما سمع ابو القاسم الجنيد حديث ‹‹كان الله ولم يكن معه شيء›› قال: والآن كما كان. فالماهيات او الاعيان من هذه الناحية لا تتصف بالوجود، انما لها شيئية وسطية بين الوجود والعدم التام، هي تلك المطلق عليها الشيئية الثبوتية. ومن حيث العلاقة الثانية، اي علاقة الاعيان باسماء الله كما يصورها العرفاء ويتابعهم فيها صدر المتألهين، فهي ان هذه الاعيان تُعد لوازم تلك الاسماء، وعند القيصري ان الاعيان تارة تكون عين الاسماء بحكم اتحاد الظاهر والمظهر، وتارة اخرى غيرها ، وهي من حيث كونها من لوازم الاسماء فذلك يعني ان تكثرها مستند الى تكثر الاسماء او الصفات، وكما يشير القيصري واتبعه في ذلك صدر المتألهين، انها من حيث كونها في غيب الحق وحضرته العلمية تعد شؤون الحق واسماءه الداخلة في الاسم الباطن، ولما اراد الحق ايجادهم ليتصفوا بالوجود في الظاهر كما اتصفوا بالثبوت في الباطن اوجدهم باسمائه الحسنى، فاول مراتب ايجادهم اجمالاً هو في الحضرة العلمية التي هي الروح الاول ، وبه دخلوا تحت الاسم الظاهرالذي هو مظهر العلم الالهي، كما انه مظهر القدرة الالهية. والاعيان الثابتة هي التي تعلق بها علم الله، فادركها على ما هي عليه مع لوازمها واحكامها. فالعلم في المرتبة الاحدية عين الذات مطلقاً ، وفي المرتبة الواحدية التي هي حضرة الاسماء والصفات صور مغايرة للذات حيث فيها الاعيان ، وذلك نظير ما ذهب اليه المشاؤون من ان علمه تعالى بالاشياء عبارة عن صور موجودة بعد وجوده وعلمه بذاته، وهي قائمة بذاته قيام الاعراض بموضوعاتها. لكن لدى صدر المتألهين ان الامر ليس كذلك، فقد اعتبر الاعيان الثابتة معان متكثرة انسحب عليها حكم الوجود الواجبي بالعرض، والتغاير بينهما ليس بحسب الوجود، بل بحسب المعنى والمفهوم. فعلم الله بالاشياء علماً تفصيلياً عبارة عن المعاني والنسب اللازمة لاسمائه وصفاته، وهذه الاسماء والصفات ليست متأخرة في وجودها عن وجود الذات الاحدية تأخر الصفات الزائدة على الشيء عن وجوده، بل هي موجودة بوجود الذات، فتكون صفات الله عين ذاته وجوداً وغيرها معنى، وكذا الاعيان والمظاهر قياساً بالاسماء والصفات. فهذا هو معنى كون الاعيان قبل وجودها في الخارج موجودة في علم الله، وليس كما يفهم من ظاهر كلمات العرفاء من ان ثبوتها يجعلها منفكة عن الوجود. فهي اذن موجودة قبل وجودها في الخارج بوجود الاسماء والصفات، بل بوجود الحق، لكنها هناك غير مجعولة الوجود، كما انها غير مجعولة العين، وهي في الخارج مجعولة الوجود، فجعلها هنا تابع لجعل الوجودات الامكانية كما ان لا مجعوليتها هناك تابع للا مجعولية الوجود الواجبي. وبالتالي جاز القول ان العلم تابع للمعلوم، كما جاز القول ان المعلوم تابع للعلم، لاختلاف الجهتين، فثبوت الاعيان من حيث هي هي هو غير وجودها في علم الله بوجود الذات، غيرية الماهية من حيث هي لوجودها، والاول معلوم والثاني علم، فيكون العلم تابعاً للمعلوم. ثم ان وجودها في العلم الاحدي مقدم على وجودها في الخارج، فيكون المعلوم تابعاً للعلم. اذن ان ثبوت هذه الاعيان انما بحسب صفاته واسمائه، فهو مشيء الاشياء، مثلما انه بحسب فعله وجوده موجد الموجودات ومظهر الهويات. فشيئية الاشياء انما هي برحمة الصفة لا برحمة الفعل، وصفات الله لا تعلل. وواضح هنا ان صدر المتألهين لا ينفي عن الاعيان الثابتة وجودها، انما ينفي عنها ذلك الوجود الجعلي، وبالتالي انه بحسب هذا المفهوم لا تكون الاعيان وسطاً بين الوجود والعدم التام، فهي موجودة بوجود غيرها من غير جعل. اذ الجعل لا يكون للقابل او الماهيات، بل يصدق على الوجود الخارجي، فهي من حيث هي هي ليست مجعولة. ومن المفترض ان تكون في وجودها اللا جعلي هذا اكمل واتم مما هي عليه في وجودها الجعلي اللاحق، خاصة وانها تعد من لوازم الاسماء والصفات الالهية، وبالتالي لا مبرر لاعتبارها تمثل ذلك الثبوت المظلم. حتى استدل العرفاء والاشراقيون على هذا النوع من الثبوت المظلم للماهيات بالحديث النبوي القائل: ‹‹خلق الله الخلق في ظلمة، ثم رش عليه من نوره››؛ اشارة الى ثبوتها في العلم قبل ان تظهر بالوجود، او المعبر عنه بالشيئية دون الوجود. وكذا استدلوا عليها بقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} الانعام/ 1، حيث اعتبروا تقدم الظلمات على النور للاشعار بثبوت الاعيان او الماهيات في الثبوت العلمي. وكان ابن عربي يرى ان الظلمة هي غيب الغيب وحضرة الهية لا تُسلك ابداً الا بنور السالك. وعلى ما يبدو انه هنا يراد لها من الكمال الذي هو كمال الباطن ما يفوق كمال الظاهر او الوجود الخارجي. مع ان هناك مشكلة تتعلق بتفسير الحديث النبوي والآية القرآنية الانفي الذكر. فلفظة (خَلَقَ) في الحديث لا يمكن تفسيرها بمعنى جعل واوجد وما شاكل ذلك، اذ الاعيان الثابتة ليست مجعولة، لهذا فسرت بـ (قدّر)، فيصبح المعنى ان الله تعالى قدّر الخلائق في عالم الظلمة لكونها لم تتنور بعد ولم تتعلق بالايجاد والجعل من قبل الاسماء الالهية. والواقع ان هذا المعنى حتى لو كان يطابق الحديث تماماً من حيث كون (خلق) بمعنى (قدّر)، فانه لا يطابق مقام ما هو عليه الماهيات الا مجازاً، فهي لا تخضع لتقدير مقدر بمعنى القياس والتدبير، فهي مقدرة بذاتها دون حاجة الى من يقدرها، لكونها تمثل جمعاً عين ذات المبدأ الحق. أما ما جاء في الآية من كون الجعل شاملاً لكل من الظلمات والنور حيث يقول تعالى: {وجعل الظلمات والنور}، فقد فُسّر الجعل ايضاً على معنى التقدير من حيث هو متعلق بالظلمات، فيكون معنى جعل انه (قدّر)، في الوقت الذي لا يخرج معناه عن الجعل والايجاد، فيكون بمعنى (قدّر) بخصوص الظلمات، وبمعنى (جعل واوجد) بخصوص النور، وهو تأويل وتفكيك لسياق الآية كما هو واضح. وفي جميع الاحوال يلاحظ ان الاستدلال المذكور حول اسبقية الظلمة على النور يواجه اعتراضاً، وهو ان الماهيات في العالم الجمعي الالهي ينبغي ان تكون اكمل مما هي في هذا العالم لاعتبارات تتعلق بانها في عالم السبق والجمع والصورة والاله، مما هو مفضل على عالم الخلق والمادة. فكان الاولى ان لا يصرح بأنها في محل التقدير، فهي في عالم يفيض عليها بالوجود ضمن ما يعرف بالفيض الاقدس، وان كان باعتبار آخر يمكن القول بانها غير موجودة بالوجود الجعلي لعدم تنزلها الى عالم الخلق. فهي اشبه بقطة شرودنجر التي أُعتبرت قبل الرصد والكشف وانهيار الدالة الموجية بان حقيقتها ليست حية ولا ميتة، بل بين بين، ضمن عالم الامكان والاحتمال، كالذي صرح به نيلز بور. وهو ما جعل اينشتاين يعتبر هذه القصة غير مكتملة ولا مفهومة. بل لا ينفع ما قد يطرح للتوجيه من ان الاعيان لو اُخذت مقيدة منفصلة عن بعضها البعض فهي ماهية بلا وجود لاستهلاكها في عين الجمع، ولو اُخذت كلها مطلقة فهي وجود عبارة عن ذات الحق نفسها. فيصبح هذا العالم وجوداً من حيث الكل، وليس وجوداً من حيث التقييد، وهو حق بالاعتبار الاول، وخلق بالاعتبار الثاني، وكذا مطلق ومقيد. فهذا التوجيه الذي يجعلنا نقترب من المفهوم الصوفي لوحدة الوجود، لا يسعه ان ينكر كثرة تلك الصور في عين الوحدة الجمعية، وهو الامر الذي يصحح وجودها قاطبة. وعليه لو اعتبرنا أن للاعيان وجوداً، هو الوجود غير المجعول، فستصبح الماهيات في ذلك العالم هي عين الوجود بلا فرق، رغم انه بالوجود الجعلي تتمايز الماهية عن الوجود. ومن ثم سيتصحح المعنى فيكون سريان الوجود وفيضانه على الوجود بالذات، اي اضافة الوجود الجعلي على الوجود غير المجعول. اما علة نفي الوجود عن تلك الاعيان لدى الفلاسفة، او ترددهم في ذلك، انما يرجع على ما يبدو الى ان الاقرار بوجود الاعيان يفضي بثبوت موجودات كثيرة متمايزة في عين الذات الواحدة. ولا شك ان الفلاسفة يخشون من مثل هذه الكثرة للوجود في المبدأ الاول، وهو ما جعلهم يتحاشون اثبات وجودها، الا بنحو استهلاكيتها وجمعها، فعبروا عن ذلك بتعبيرات اخرى هي اقرب للتوسط بين الوجود والعدم. رغم ان الفلاسفة والعرفاء يعولون على هذه الاعيان في تفسير العديد من المظاهر التي تخص العلاقة الجارية بين الحق والخلق. ومن ذلك انها منبع للخير والشر كما يراها العرفاء. اذ ليس للحق سوى ان يفيض عليها وجودها الخارجي الآخر. فالسريان هو اظهار الاعيان وابراز احكامها من عالم الظلمة والخفاء الى عالم النور والظهور، فهي اظلال النور، حيث ظهورها به وعدميتها في نفسها. وان هذا الاظهار يجعل من علاقة الحق بالخلق علاقة تكاملية، فاحدهما يحتاج للاخر ويفتقر اليه، كالذي يصوره لنا ابن عربي في التقابلات التي يقيمها بين الحق ووجودنا، ومن ذلك قوله: ‹‹فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون اليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر الينا من حيث ظهوره لنفسه››. وكذا قوله في بيت له من الشعر: (فأنى بالغنى وأناأساعده وأسعده) ، والمعنى هو ان الحق ليس غنياً الغنى المطلق، فنحن نساعده باعياننا الثابتة في ظهور اسمائه وتجلياته وجميع كمالاته فينا، فالقابل مساعد للفاعل في فعله، وذلك بقبوله هذا الفعل34. وعلى حد قول الجندي بان هذا البيت ‹‹يشير الى توقف النسب الاسمائية على الاعيان الكونية، فان الالهية متوقفة على العبودية، فهو من حيث انيتي العبدانية يساعده بي ويسعده، كما قال تعالى: {ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم} محمد/ 7، والنصر المساعدة والاسعاد في تحقيق الربوبية والالوهية، وحسن تأتي القابل في كمال مظهريته لربه اسعاده له، فان سعادة الحقايق والنسب الاسمائية ان يظهر اثارها في مظاهرها››. مهما يكن فان للوجود مراتب وتعينات مختلفة، هي الذات ثم اسمائها وصفاتها التابعة لها، ثم ما يلزم عنها من الاعيان الثابتة المسماة بالفيض الاقدس، وبعد ذلك الوجود الخارجي المجعول المعبر عنه بالفيض المقدس. فالفيض المقدس - كما يقول الاملي - مرتب على الفيض الاقدس، وهذا الاخير مرتب على الاسماء الالهية، وهذه الاسماء مرتبة على الذات الازلية. او يمكن القول ان هناك الذات الحقة التي تتضمن اسماءها وتوابعها، ومن بعدها الوجودات الخاصة الخارجية الموجودة بسبب التجليات الحاصلة من الذات بحسب شؤونها واسمائها على الاعيان. لكن سؤالنا هو: كيف امكن لهذا التجلي ان يتم؟ وبعبارة ثانية ما هو مبرر انبساط الوجود من الذات الحقة على غيرها؟ ثم ما هي طبيعة العلاقة بين هذه الوجودات؟ كما ان تفسير ظاهرة السريان والنقص والتعدد والاختلاف بحسب تفاوت الماهيات يثير مشكلة كتلك التي طرحها النراقي، وهو ان الماهيات اعتبارية بحسب القائلين باصالة الوجود، فكيف يجوز ان تكون هي السبب للتعدد والاختلاف مع انها من العدميات؟ كذلك هناك مشكلة اخرى تجعل القول بالوجود الجعلي ينافي القول بالوجود الواحد المنبسط، فالاخير لا يدع مجالاً للجعل والتأثير باعتباره واحداً غير متكثر حتى يؤثر بعضه في البعض الاخر، فصفته الثابتة من الوحدة والانبساط لا تدع مجالاً لتلك المقالة، والا تضمن شيئاً من التغير والانقلاب، وكما قال العارف الخميني انه بحسب ذوق العرفاء فان الماهية هي المجعولة باعتبارها مفتقرة وليس في الوجود جعل ابداً، بل له الاصالة والحقيقة والظهور والبطون والاولوية والاخرية، وليس هذا عنده من الجعل38. وبالتالي فالقول بالسريان هو قول مجازي، فليس من شيء يسري على شيء اخر، اذ ليس في العين غير الوجود الواحد المنبسط بذاته اصلاً. هكذا فان الجعل والتأثير لا يلوح الاعيان الثابتة التي تمثل القابلية للوجود، بل كذلك يصدق الامر على الوجود ذاته باعتباره واحداً غير متكثر"[1].
ويقول ملا صدرا في احد اوجه تفسيره لحديث (كنت كنزا مخفياً) الخ ، قال: "ان للاشياء وجودين، وجودا علمياً ، ووجوداً خارجياً ، فالوجود العلمى هو المسمى بالاعيان الثابتة ، و هى ازلية قديمة ؛ و الوجود الخارجى محدث، فخفاء اللّه تعالى بالنسبة الى الاعيان الثابتة في الازل ، فان الاعيان الثابتة موجودة مع اللّه لكن لا علم لها به ، فيكون اللّه مخفيا بالنسبة إليه. فلما اراد ان يعرفه الاعيان الثابتة اخرجها من الوجود العلمى الى الوجود الخارجى ليعرف اللّه تعالى، اذ لا يعلم اللّه تعالى الّا بالوجود الخارجى"[2].
قال تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)) ، فرغم كل النهي الوارد في القرآن الكريم وروايات أهل البيت (عليهم السلام) عن التحدث بغير علم وان الانسان لا يمكن ان يعلم الغيب الا بما يعلمه الله سبحانه وتعالى لانبياءه ورسله (صلوات الله عليهم) ، يأتي ملا صدرا واتباعه تبعاً لأبن عربي ليتحدثوا عن وجود "اعيان ثابتة" لم يقيموا عليها دليلا ولعلهم استندوا فيها الى ظنون واوهام الكشف وحاولوا تأييدها بعبارات فلسفية واخراجها بصورة جزمية محاولين بذلك تفسير الوجود ونشأته فيما ليس لهم به علم. وقد قال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)).
موقف الفلاسفة والعرفاء من النبوة:
هذا البحث من اخطر البحوث التي تكشف عن حقيقة رؤية الفلاسفة والعرفاء للنبوة والانبياء ولذلك سوف نتوسع بنقل اجزاء كبيرة من مقال الاستاذ يحيى محمد الذي يكشف عن فكر خطير عند الفلاسفة واهل العرفان.
قال الاستاذ يحيى محمد: "ان الفلاسفة والعرفاء يفهمون من النبوة بعداً اخر يترتب على العلم الشمولي، وهو البعد المتمثل بالولاية والحاكمية. فلدى الفلاسفة ان النبي او الفيلسوف مفوض بحسب ما له من العقل الفلسفي لأن يحكم العالم على صورة ما يحكم المبدأ الحق الموجودات، بتكميل النفوس البشرية وايصالها الى غاياتها المتمثلة بالمفارقات السماوية، او على شاكلة ما يسمى المدينة الفاضلة كما لدى الفارابي. فيشترط في رئيس هذه المدينة ان يكون حكيماً فيلسوفاً نظير المبدأ الاول الذي يرأس مملكة الوجود. والفيلسوف يطرح نفسه – هنا - كاعلم من في الارض لاصلاح المملكة الاجتماعية مثلما هو الحال مع المبدأ الاول باعتباره اعلم من في الوجود، اذ بعلمه تتحدد العناية بالوجود، حيث العناية عين العلم، والعلم عين الوجود. أما لدى العرفاء فالامر اكثر بعداً وعمقاً، فعندهم ان سلطة النبي او الولي العارف لا تنحصر بالسلطة الظاهرة التي يحكم بها النبي الناس، بل تتقدم عليها سلطة اخرى تفوقها وتكون علة لها، فهي تشكل نيابة عظمى عن الحق لصنع العالم وتكوينه. وهذه هي احدى اسقاطات المنظومة الوجودية، فكما سنرى ان العرفاء اسقطوا كلاً من العلم الالهي وكيفية التنزلات الحقية او الخلقية على العلاقة التي تخص النبي والعارف بالوجود. فهذه العلاقة هي ايضاً عبارة عن علم وصنع وايجاد، او انها علاقة الوهة. ان ما يثير الاهتمام في الموقف الوجودي من النبوة، هو انه رغم الاتفاق المبدئي بين الفلاسفة والعرفاء حول ما تمثله هذه المرتبة من حقيقة علمية او ادراكية، الا ان الملاحظ هو ان كلاً من الفريقين لم يولها حظاً يفوق المرتبتين التين يتمتعان بهما، كلاً على حدة، واعني بذلك مرتبة الفلسفة والعرفان. فالفلاسفة جعلوا النبوة اقل مكانة وقدرة علمية مقارنة بالفلسفة. وكذا ان العرفاء فعلوا نفس الشيء في المقارنة بينها وبين العرفان. لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ان النبي له اكثر من درجة ومقام، فهو لدى الفلاسفة نبي وفيلسوف، وهو لدى العرفاء نبي وولي عارف، وهو تخريج يبعد عنهم التهمة التي يعدون فيها انفسهم افضل من الانبياء وارقى درجة منهم. وعليه كان لا بد ان نلقي ضوءاً على طبيعة المرتبتين اللتين يمتثلهما النبي بحسب رؤية كلا الفريقين، وهما النبوة والفلسفة، وكذا النبوة والولاية العرفانية، تبعاً لما سبق ان بحثناه حول كل من العلم الالهي وتجلياته في العقول المفارقة، وقضية التنزيل وما لها من علاقة بالالوهة وصنع العالم".
ويضيف: "لدى الفلاسفة ان عقل الانسان يكوّنه عقل مفارق يطلق عليه العقل الفعال، فليس لهذا العقل الاخير تأثير مباشر على الجسم، انما يتحقق تأثيره لما هو على شاكلته من العقل الانساني. فكما يقرر الفارابي ان العقل الفعال مختص بكمالات الانسان العقلية، فهو يمنح الانسان قوة ومبدءاً يمكّنه من ان يسعى من تلقاء نفسه الى سائر ما يبقى له من الكمالات. وعليه لما كان الانسان مرتبطاً بالوهة العقل الفعال؛ لذا تتعين حركته الكمالية بالاتصال بهذا العقل الكلي، بل والاتحاد به. فالادراك انما يكون لما هو شبيه له كما يقول الفلاسفة من امثال ابن سينا، ومن ثم فان علاقة الاتصال تكون بين المتشابهين، او انها تفضي الى حالة الاتحاد التي هي اعظم واشد من حالة الشبه؛ كالذي عليه صدر المتألهين. لذا فالاتصال او الاتحاد بالعقل الفعال هو ميزة كل من الفيلسوف والنبي كما سنرى. وبحسب الرؤية الفلسفية فان حقيقة النبوة هي نفس جامعة لعوالم علم كمالية ثلاثة، هي قوى الاحساس والتخيل والتعقل، وقد قُدّر ان يكون للنبي عقل مستفاد يتصل بالعقل الفعال4، واقتضى هذا التقدير ان يتساوى النبي والفيلسوف في الاتصال وكسب المعرفة. فكلاهما يتصل بالعقل الفعال المتمثل من الناحية الدينية بجبريل، وهو الذي له الافضلية باعتباره يمثل مصدر المعلومات النبوية وغير النبوية. فالتفضيل وفقاً لهذه الرؤية انما يكون بحسب ما عليه الكائن من الرتبة الوجودية وليس باعتبار ما له علاقة بالقيم المعيارية والاخلاقية كالذي يراه النظام المعياري. وما يميز القوى الثلاث فيما بينها، هو ان القوة الاولى (العقلية) تمكّن النبي من ادراك الحد الاول دفعة واحدة، فيتحول من المعقولات الاولى الى المعقولات الثانية في اقصر الازمنة لشدة الاتصال بالعقل الفعال، حيث يفيض على النفس العلوم، فتصبح نفس النبي عقلاً مستفاداً أقل رتبة من العقل الفعال باعتباره علة هذه النفس النبوية. فالنبي يخضع – هنا - لسلطة الالوهة المتمثلة بالعقل الفعال جبريل. أما القوة الثانية (التخيل) او الحس الباطني، فهي تحاكي القوة الاولى وتكون مثالاً لها بحسب منطق السنخية، اذ تقوم بتصوير العلوم العقلية بأمثلة محسوسة ومسموعة من الكلام، بحيث يتمثل للنبي ما يعلمه من نفسه فيراه ويسمعه، فيرى في نفسه صوراً نورانية هي الملائكة ويسمع اصواتاً هي كلام الله او وحيه، وهي من جنس ما يحصل للبعض الذين يمارسون الرياضات الروحية، ومن جنس ما يحصل لبعض المجانين، وكذلك من جنس ما يحصل للنائم في منامه، حتى عُدّ النوم جزءاً من اجزاء النبوة. او كما قال ابن سينا: ‹‹ان الرؤيا الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة واربعين جزءاً من النبوة››. وخاصية هذه القوة في النبوة هي للدلالة على المغيبات والانذار. في حين ان القوة الثالثة (الحسية) تتيح لنفس النبي تغيير الطبيعة، والتأثير في مادة العالم، كما تؤثر النفس في بدنها، ومن ذلك تحدث الخوارق والمعجزات، بالتأثير في هيولى العالم بازالة صورة وايجاد صورة اخرى، كإن تؤثر في استحالة الهواء غيماً ومن ثم مطراً. فقد ثبت في الالهيات ان الهيولى مطيعة للنفوس ومتأثرة بها، وان هذه الصور تتعاقب عليها من آثار النفوس الفلكية، والنفس الانسانية من جوهر تلك النفوس وشديدة الشبه بها. وهذا ما يبرر تأثير النفس الانسانية في هيولى العالم، وان كان غالب تأثيرها على بدنها الخاص، لكن يمكنها ان تؤثر على سائر الابدان كما يحصل في اصابة العين مثلاً. هذه قوى النبوة الثلاث التي اعتقد الفلاسفة أنها قد تجتمع في فرد واحد كما هو الحال مع النبي، وقد لا تجتمع وتتفرق وهو الغالب في الناس)... الى ان يقول: (وقد تجتمع هذه القوى الثلاث بصورة كاملة لدى الفيلسوف. وبنظر البعض انها تجتمع عند العارفين الاولياء على وجه التابعين للانبياء. لكن في جميع الاحوال ان ذلك لا يجعل وجود فارق هام او نوعي بين الانبياء والفلاسفة تبعاً للرؤية الفلسفية، او بينهم والعرفاء تبعاً للرؤية العرفانية. الامر الذي يبرر الاعتقاد باستغناء الفلاسفة والعرفاء عن النبوة خلافاً لغيرهم من الناس، بدعوى التمكن من الاتصال والاتحاد بالعقل المفارق (جبريل) ومن ثم بلوغ الحقيقة وتحصيل السعادة التي يدعو اليهما الانبياء بحق. وتبعاً للرؤية الفلسفية، لو قمنا بمقارنة بين الفيلسوف والنبي، سنرى انهما يشتركان بالقوة الاولى العقلية، ويكون احدهما في المرتبة التي يكون فيها الاخر، حيث ان نفسيهما تضاهيان العقل الفعال، وإن كانتا اقل منه شرفاً في العلم والرتبة، فهو علة وهما معلولان، والعلة اشرف من المعلول. لكن الفارق بينهما، كما يحدده ابن سينا، هو ان النبوة ظاهرة فطرية، في حين ان الفلسفة مكتسبة. أما لو قمنا بمقارنة بين حقيقة الفلسفة وحقيقة النبوة، فسنرى ان الامر مختلف تماماً. اذ تصبح المقارنة بين القوتين العقلية والتخيلية، فالقوة الاولى تمثل الفلسفة، فيما تمثل الاخيرة النبوة. وبالتالي جاز اعتبار تفوق الاولى على نظيرتها في العلم والرتبة رغم ما بينهما من مسانخة. فالمقرر ان النبوة من سنخ الفلسفة لكونها تعبر عن المضامين المجردة للاخيرة بالمحاكاة والتصورات التشبيهية. وبعبارة اخرى، تتقوم الفلسفة بقوة العقل القدسية، والنبوة بقوة التخيل، وان بينهما رابطة من المسانخة المعرفية، حيث تتصف الاخيرة بمحاكاتها وحاجتها للاولى. اذ تعمل الاولى على ابراز الحقائق بالصور العقلية الكلية، فيما تقوم الثانية بتخيل هذه الصور لتعبر عنها بالرموز والامثال والتشبيهات. وقد تبلغ النبوة أكمل المراتب التي تنتهي اليها القوة المتخيلة، اذ بها يقبل الانسان في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة او محاكياتها من المحسوسات، كما يقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة، فيراها كخيالات ذهنية. لكن مهما بلغت النبوة من الكمال فهي لا تبلغ مرتبة العقل والتجرد. مع هذا لا بد من الاخذ بعين الاعتبار ان الرؤية الفلسفية ترى الانبياء هم فلاسفة ايضاً، او ان كل نبي فيلسوف بالضرورة، لكونه يكسب المعقولات المجردة عن العقل الفعال. وبالتالي فان للنبي بعدين لاختلاف المقامات، احدهما كفيلسوف يقبل استفاضة المجردات عن العقل الفعال، والاخر كنبي يحاكي الفيلسوف بمحاكاة قوته الخيالية لقوته العقلية. وكما يصف الفارابي النبي من انه يكتسب النبوة والفلسفة عن طريق ما يفيضه الله تعالى الى عقله المنفعل بتوسط العقل الفعال، حيث يستمد منه المعلومات عبر العقل المستفاد، ثم يتحول ذلك الى قوته المتخيلة، فيكون بما يفيض منه الى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً تام التعقل، وبما يفيض منه الى قوته المتخيلة نبياً منذراً بما سيكون، ومخبراً بما هو الان من الجزئيات. وهذه المرتبة هي اكمل مراتب الانسانية، بل واعلى درجات السعادة. اذ تصبح نفس النبي ‹‹كاملة متحدة بالعقل الفعال على الوجه الذي قلنا››. وعليه فالنبي كفيلسوف هو اعظم منه نبياً يوحى اليه. كذلك فكمال النبي اعظم من كمال الفيلسوف الصرف، باعتبار ان الاول يحمل كمالين؛ الفلسفة والنبوة، او انه يجمع بين البرهان المفيد لليقين والتخيّل المفيد للاقناع. وقديماً قال جابر بن حيان الكوفي: ‹‹ان الشرع الاول انما هو للفلاسفة فقط، اذ كان اكثر الفلاسفة انبياء؛ كنوح وادريس وفيثاغورس وطاليس القديم، وعلى مثل ذلك الى الاسكندر››. لكن نتسائل انه اذا كان كل نبي فيلسوفاً، فهل يجوز العكس، فيصبح من الممكن ان يكون الفيلسوف نبياً؟ لا شك ان اتجاه الفارابي يتقبل ذلك ولا يرى فيه مانعاً. فعلى رأيه انه يجوز للانسان بلوغ مرحلة النبوة من خلال الاتصال بالعقل الفعال، بالطرق الارادية والفكرية والبدنية ، حيث تبلغ القوة المتخيلة عنده نهاية الكمال. لكن بحسب وجهة نظر ابن رشد فان الامر يختلف، فهو يعبر صراحة بان كل نبي فيلسوف من دون عكس. ولا شك ان اتجاه الفارابي هو اقرب واوفق مع الرؤية الفلسفية مقارنة مع اتجاه ابن رشد. وقد يكون الاوفق والاشد اتساقاً هو الاعتراف بضرورة ان يكون الفيلسوف نبياً، تبعاً لما تفرضه سلسلة الصعود في عدم امكان تحقيق المرتبة الكمالية ما لم يسبقها تخطي غيرها مما هي اقل منها رتبة ووجوداً. فالانسان لا يمكنه على هذا ان تكون له قوة العقل القدسية ما لم يحقق قبل ذلك كمال مرتبة القوة التخيلية، فكل ادراك ضرب من الوجود، وبالتالي لا يسعه ان يكون فيلسوفاً ما لم يمرّ بمرحلة النبوة. وبعبارة ثانية، اننا هنا امام تعدد في المقامات، فمقام الفلسفة ارقى من مقام النبوة، وانه لكي يتحقق المقام الاول لا بد من المرور بقنطرة المقام الاخر، والا كان ذلك تجاوزاً للمراتب مما لا يتفق والمنطق الوجودي. واكثر من هذا انه لا غنى عن ان يكون كل فيلسوف نبياً من غير عكس، فالنبي وإن كان يصل الى نهاية كمال القوة المتخيلة، لكن ليس من المعلوم ان يحظى بكمال القوة العقلية (البرهانية)، وبالتالي جاز ان لا يكون فيلسوفاً وفاقاً مع المنطق الوجودي. وعليه فما يبدو هو ان الفلاسفة المسلمين تقصدوا اخفاء هذا اللزوم لاعتبارات التقية ، كي لا يظهر لدى الاخرين انهم يعدون الفلاسفة اعظم من الانبياء باطلاق. مهما يكن فان مهمة الفيلسوف هي اعظم من مهمة النبي، فبينما يتعامل النبي مع الظاهر يتعامل الفيلسوف مع الباطن، وبينما يمارس الاول دور الاقناع، يمارس الثاني دور البرهان والكشف عن الحقيقة، وانه اذا كان النبي يأتي بالشريعة كتنزيل فان الفيلسوف يمارس دور القيوم الذي يوضح فيه حقائق ما يأتي به الاول. وكلاهما حيث يتصلان بالعقل الفعال (جبريل)، فان ما يستفيدانه هو كسب العلم الالهي الكلي، وانهما معاً مما يوحى اليهما بواسطة العقل الفعال، وبالتالي فان لهما معاً نفس الاهلية في تغيير الشرائع. والامر لا يقتصر على ذلك، اذ المقرر لدى الفلاسفة ان الانسان في قربه من العقل الفعال يتحول الى كائن الهي وعقل ومعقول بذاته ، مما يعني انه يصبح حاملاً لصفة العلم الالهي ، وهي الصفة المناطة بايجاد الممكنات وخلق العوالم والاكوان. فهل معنى هذا ان للفلاسفة والانبياء ذلك العلم الالهي بكل شيء، وكذا ان لهم تلك القوة الخارقة في تكوين الاشياء وخلقها؟ لا شك ان ما يتمخض عن الموقف الفلسفي هو خلع صفة الالوهة في العلم والتكوين على كل من الفلاسفة والانبياء. فالنبوة والفلسفة هما بمثابة سلطتين تستخلفان ما عليه سلطة الحق الالهية، او سلطة المفارقات السماوية. خصوصاً وان الرؤية الفلسفية تصرح احياناً بان غرض الفيلسوف ليس مجرد الاتصال بالعقل الفعال وانما الاتحاد به، فيكون هو هو، وهو انه عبارة عن كل شيء، وهي السعادة القصوى. فالفلاسفة يذهبون الى ان غاية الحكيم هو ان يتجلى لعقله كل الكون ويتشبه بالاله الحق. وقد قيل ان هذا القول هو جوهر ما بلغه فلاسفة الاسلام عن الرأي الرواقي القديم. وهو في جميع الاحوال يمثل عين الرؤية الفلسفية التي يدعو لها فلاسفة النظام الوجودي. فابن باجة - مثلاً - يرى الفيلسوف تام العقل وينظر الى كل شيء بعين هذا العقل، فيرى العقل في كل شيء ويصير هو إياه. وقد تجاوز ابن باجة في نظره هذا من سبقه من الفلاسفة، مثلما اشار اليه بنفسه. وكذا هو الحال فيما قرره ابن رشد من قبول الاتحاد على شرط ان يكون ذلك قائماً على التعليم الكسبي، تمييزاً له عن الاتحاد المدعى من قبل الصوفية. فاتحاد النفس بالعقل الفعال، يجعلها تكون هي هو، وهو هي، فان النفس تبلغ بذلك درجة تكون جميع الموجودات فيها أجزاء ذاتها، وتسري قوتها في كل شيء، كما يصبح وجودها غاية كل شيء من المخلوقات. تلك هي الرؤية الفلسفية التي تجعل من النبي اوالفيلسوف في اتحاده بالعقل الفعال عبارة عن اله ينطوي علمه على كل شيء، وانه يصبح مصدر قيام وتكوين كل شيء، وكذا هو غاية كل شيء. وسنجد ان لهذه الرؤية شاكلتها المعمقة لدى نظيرتها العرفانية" [3].
________________________________________
الهوامش:
[1] الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية / يحيى محمد – ص47 وما بعدها.
[2] مجموعه رسائل فلسفى صدر المتالهين / ملا صدرا ت1050هـ - ج1 ص357.
[3] الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية / يحيى محمد – ص(191-198).
|