قبل عدة أعوام كان العراقيون يحبسون الأنفاس بانتظار الإطالة الأولى لرئيسهم السابق في المحكمة ، كان الكثيرون من ضحاياه ينتظرون هذه اللحظة بفارغ الصبر ، علها تضمدُ جرحاً أو تشفي غليلاً ، وفي الطرف الأخر كان أنصاره ومريدوهُ يحبسون الأنفاس أيضا ، بانتظار لحظة ستطلق فيها رصاصة الرحمة على نظامهم وقائدهم وتنهي حلم العودة إلى الأبد .
وبين الطرفين كانت الجلسة الأولى "صادمة" ليس للعراقيين فحسب ، بل للعالم بأسره ِ، فها هو "فخامة الرئيس" و "القائد العام للقوات المسلحة " و"القائد الضرورة " و و ..إلى أخر ألقابه الرئاسية ، يجرد منها في لحظة ، لنسمع منادي المحاكمة بصوت جهوري ينادي "المتهم صدام حسين مجيد " ، كانت لحظة تاريخية حاسمة ، أنها أشبه شيء بلحظة إسقاط التمثال الشهير في ساحة الفردوس ، حين شاهد الفريقان ،اللقطات الأولى المحاكمة ، همسوا مع أنفسهم "التاريخ يتغير ألان " ، فعلاً كانت الألفية الثالثة حاسمة ، وتحمل من المفاجآت ما لا يمكن إن يُرى حتى في الأحلام ، أو يمتد إليها خيال أي روائي كبير أو شاعر حالم ...
حينها قلتُ لمن يتابع معي إن المحكمة انتهت..!، فاستغرب صديقي من ما يسمع ، وردَ بتعجب : كيف .؟ وهي لم يمضِ على بدئها سوى بضع دقائق فقط .؟ ، قلتُ له ُ : أنها انتهت بالفعل ، وصدر حكمها وقضي الأمر .!، ازداد صاحبي تعجباً مما يسمع ، ورد باستغراب أكثر : كيف ؟؟..عندها أجبتهُ بإجابة واحدة : هذه أول مرة يظهر فيها زعيم عربي في قفص الاتهام ، أنها ليست محاكمة استثنائية فحسب ، بل هي بمثابة رصاصة تنطلقُ ألان لتستقر في جسد كل الأنظمة العربية معلنة موتها وانتهاء "قدسيتها " وأزوف عصر حصانتها ، أنها إعدام رمزي لكل هيبة هذه الأنظمة ومنعتها عن الشارع ، واستدركتُ :ولكن لا تقلق يا صديقي ، ستكون الإدانة قوية لما يقوم به العراقيون ألان ، من الأنظمة ومن الشعوب العربية أيضا ، ردَ صديقي : من الأنظمة يمكن إن نفهم ، ولكن الشعوب لماذا .؟ ، أجبته ُ أيضا : أنت تتفهم ردة فعل الأنظمة لأنها تتضرر ، ولكن ردة فعل هذه الشعوب لأنها مندهشة لما تراه من تجرؤ على "قداسة السلطة " ورمزيتها التي تشبه قدسية "الإله" ، لا يُمكنها إن تتقبل هذه المحاكمة بسهولة ، أنها تفاجأ ألان بخيبتها وانتكاستها ومدى استغفالها الطويل من قبل هولاء الذين لم يتصوروا إن يروهم يوماً ما في الأقفاص "تماماً مثل رئيسنا " ، ولكنهم سيعتادون على هذا من ألان فصاعداً ، فقد كسر العراقيون الحاجز ، وانتهى الأمر ..
بعد سنوات من هذا الحوار وتلك المحاكمة ،تذكرت ُ حواري مع صديقي وانأ أشاهد القاضي المصري ينادي المتهم " محمد حسني السيد مبارك" فيرد "الرئيس السابق " والمتهم الحالي "نعم يافندم إنا موجود !" ، لا شيء يختلف أبدا بين المحاكمتين ، إلا في أمرين ، أولهما القفص "الرئاسي" ، فقد كان قفص "صدام فخماً " ، بينما كان قفص "مبارك "قفص "عادي "جداً من الممكن إن يقف خلف قضبانه ِ أي متهم أخر ، الفارق الأخر هو إن المحاكمة كانت على الشارع العربي اقل وقعاً ، بل كان الشارع اشد حماساً ورغبة في رؤية "الرئيس " خلف القضبان وهو يحاكم بعد إن شعر- الشارع - انه هو الوحيد الذي لا يمكن إن يكون متهماً ، بل هو من يتهم وهو من يصدر الإحكام أيضا ..
يُحسب للمصريين وقبلهم العراقيين هذه السابقة التي كسرت حواجز الخوف وأطلقت أيدي الشعوب ، ومهما كان شكل "الأقفاص ونوعها " فإننا سنعتاد على رؤيتها مجدداً في أكثر من عاصمة عربية ، فما دام هناك طغاة وما دامت هناك شعوب تريد الحرية ،فأننا بانتظار مشاهدة المزيد من "الافقاص " الجمهورية" وربما "الملكية "حتى .ربما .
حيدر قاسم الحجامي
|