*كتاب "إستراتيجيا" (ح3): المنهجية العامة للتفسير الجديد
لايمكن أن نكون مواكبين للعصر وماسكين بزمام الأمور وبناصية الواقع إلا في صورة إعادة إنتاج حضارة بواسطة عقل جديد ومتجدد. والثورة التونسية إذن فرصة لا تعاد للشروع في تأسيس العقل الجديد. و للدين دورٌ مركزي في التأسيس إلا أنّ شروط الثورة تأبى أن يكون الدين مُسقَطا لا على العقل و لا على الواقع. كما أنّ للغة باعٌ في التأسيس، وربما ستكون هي الركيزة الأساس في ذلك كما سنرى.
فلكي يكون للناشئة تفكيرٌ منطقي وعقلاني لا يستند إلى النقل إلا عند الضرورة القصوى، لا بدّ من إنجاز العمل الجبار التالي: تحويل العربية من لغة رسوم ووصف للماضي وللمشاعر الفُصامية إلى لغة حية. وإذا قبلنا بمبدأ تحويل اللغة العربية إلى لغة حية، فإننا سنقبل بتحويل الدين الحنيف، وهو روح اللغة العربية، من وضع الإتباع الذي دفعه إليه التخلف إلى وضع الإبداع الذي يأمل كل مسلم أن يستسيغه فيه.
لذا قبل التعريف بالدور الذي يمكن أن تلعبه مقاربات علوم التربية، وخاصة منها تلك المتصلة عضويا بالألسنيات وبالتالي تلك المتوخاة بالخصوص في تدريس اللغة، لنعطِ بسطة أولية ومبدئية عن الرؤية للمنظور العام الذي نضع فيه الدين الحنيف. إنّ الإسلام هو الإسلام. وما القراءات المختلفة التي يحاول البعض إنجازها إلا محاولات محسوبة على أصحابها. أي أنّ مشكلة المسلمين اليوم لا تتطلب قراءات للإسلام لحلها بقدر ما تتطلب استرداد المسلمين للحرية حتى يكونوا قادرين على التعبير عن الإسلام. وثورة تونس تعدّ فرصة سانحة لتجسيد مثل هذه الرؤية، كما بينتُ أنفا.
من هذا المنظور يمكن القول أيضا إنّه ليست للمسلمين مشكلة مع الشريعة السمحاء أو مع أنواع الأحكام، وإنما المشكلة في ربط الإيمان بالقانون سواءً أكان ربانيا أم إنسانيا. والفيصل هي إرادة الشعب. وإرادة الشعب ليس لها مصداقية إلا في صورة اضطلاع الشعب بحرية التعبير كاملة (عن الإسلام وعن كل ما يتعلق بالحياة). وحرية التعبير لن تكون ذات جدوى بغير قدرٍ أدنى من التمدرُس وبغير فلسفة شعبية موجِّهة. وعلوم التربية والألسنيات هي الأداة المعاصرة لمساعدة الشعب على مثل هذا التحرر من خلال منهاج واضح.
* كانت هذه الحلقة (3) من كتاب "إستراتيجيا ومشروع النهوض بعد الثورة"
*كتاب "إستراتيجيا" (ح 4): العقل اللغوي
إنّ المُراد من الكتاب تزويد الناخب الافتراضي في تونس وفي الوطن العربي، أو مَن ينوب الناخبَ فكريا وتربويا وإعلاميا، من نخبة مثقفة وساسة وأحزاب، بوسيلة تساعده على تكميل المعرفة الأداتية والإجرائية دون سواها (التي أرضعته إياها رَضاعة، طوال ما لا يقل عن الأربعة أشهر الموالية للثورة ، أجهزة الإعلام المُوجِّه، وهي معرفة كان يمكن أن تحوصل في كتيّب يُوزع مجانا على الناس) بمنهجية تساعد الجميع على إقحام ثقافة هامة نفتقر إليها: ثقافة التخطيط الاستراتيجي.
في هذا السياق سأحاول إنجاز الرؤية المقترحة لتطبيق الإسلام، لا بواسطة الشرح العلمي وإنما بواسطة تجسيم "الفعل والحركة" المنبثقين من "الكلام" (اللغة) وفي نفس الوقت تجسيد معنى أن يكون "الكلام" من الإسلام، أو أن يكون "الكلام" إسلاما. ويتمّ التجسيم والتجسيد في ظل مقاربة استعراضية لواقع المجتمع التونسي ، مقاربة ظواهراتية، سوسيولوجية، سيكولوجية.
من جهة أخرى سيُمثل العامل اللغوي (العلمي التربوي الألسني)/ الديني المندمج، من خلال المقاربة الظواهراتية، بطانة الكتاب بأكمله، وهي بطانة ذات وجهين اثنين لا يفترقان عن بعضهما البعض: أولا، اللغة كأداة تحرر (وهذا ما تأكدَت بوادرُه الأولى في واقع الثورة). ثانيا، اللغة لا فقط كفكر أو إيديولوجيا إسلامية (كما هي اليوم فكرا قوميا و فكرا اشتراكيا و فكرا ليبراليا و فكرا يمينيا أو فكرا يساريا، و إلى غير ذلك الأصناف)، لكن أيضا وبالخصوص بشكل ومضمون عقل قائم بذاته: العقل اللغوي. والعقل اللغوي هو محرك الاجتهاد الجديد، "الاجتهاد الثالث"، والأداة المنفذة لوظائف هذا الاجتهاد التي من مشمولاتها الإسهام في تشكيل "ثقافة وسيطة" تخول الانتقال من طور التخلف إلى طور الحضارة.
وأعني بالعقل اللغوي عقلا لا يقتصر على التماهي مع الفكر والواقع، مع كل فكر وكل واقع، بل عقلا يتناظر أحيانا و ويتطابق أحيانا أخرى مع العقل الديني في حركة تفاعلية متبادلة، الغاية منها توسيع رقعة الفكر. وقد يحصل توسيع الفكر تارة على حساب "كلام" ضيّق ولفائدة معرفة دينية أوسع؛ و قد يحصل توسيع الفكر تارة أخرى على حساب معرفة دينية ناقصة أو مختزلة أو جاهلة ولفائدة معرفة لغوية أوسع وأشمل.
إنّ العقل الديني المُزمع عرضُ تجاربِه (مشكلات وحلول في شكل استراتيجيات) من خلال أجزاء هذا الكتاب قد يفي بحاجة التفكيك الإيديولوجي والبناء الإيديولوجي، وفي أسوء الحالات بحاجة التصحيح الإيديولوجي والتدوير الإيديولوجي وما إلى ذلك من الوظائف اللازمة للنظر والتدبّر والتوليد والتحويل الفكريين. في الأخير قد يكون العقل اللغوي منهاجا ناجعا لتشكيل إيديولوجيا جماعية مُوسِّعة لمقولة "الإسلام هو الحل".
ومعنى ذلك أن العقل اللغوي سيكون مُوسِّعًا للمقولة بمفعول أنسنتهِ لها، أي بمفعول إدراجها في الوجود لدى الإنسان العربي والإنسان المسلم وكذلك للإنسان الكوني فضلا عن انغراسها بعدُ كجوهر في ذهنية ونفسية الإنسان المسلم دون سواه؛ علما وأنّ هذا المفصل الأخير، مفصل الأنسنة مازال يمثل على ما أعتقده مشكلة مستعصية ترنو كثير من النخب إلى حلها وكثير من النخب الأخرى إلى طمسها، ويطمح جانب ضخم من الشعب العربي التونسي المسلم، ومن الشعب العربي عموما والشعب العربي المسلم بصفة أعمّ، إلى انفراج الأزمات الناتجة عنها.
محمد الحمّار
الاجتهاد الثالث
* كانت هذه الحلقة (4) من كتاب "إستراتيجيا ومشروع النهوض بعد الثورة"
|