كل امة من الأمم لها تاريخها الخاص بها وبطبيعة الحال تكون في صفحات هذا التاريخ احداث مشرقة تتفاخر بها الاجيال، وهنالك صفحات يطلق عليها الصفحات السوداء في تاريخ تلك الأمة وذلك لما تحتويه تلك الصفحات من وقائع محزنة كخسارة في حرب او خيانة لائمة او صورة سلبية طبعت في ذاكرة التاريخ.
ومن صفات الامم الناهضة الواعية انها تستفيد من كل شاردة وواردة في تاريخها وحتى من الاحداث التي تحمل طابع حزن والم فيجب ان تستلهم دروس وعبر تفيدها في بناء مستقبلها. وهذا ما نلاحظه في الامم والدول المتقدمة فمثلا الدولة الامريكية والبريطانية والفرنسية استفادت من تجاربها السابقة في بناء حاضرها ونلاحظ ايضا اليابان فقد استفادت من تجربتها في الحرب العالمية الثانية رغم خسارتها القاسية في تلك الحرب وقعت معاهدة مع الجانب الامريكي لا تزال سارية الى وقتنا الحاضر، ولم تبق تندب وتولول على آهات وخسائر الحرب فقط وانما قامت بلملمة جراحها وانطلقت في بناء ذاتها من جديد مستفيدة من الحدث الذي مر عليها.
ومن الاحداث الكبيرة التي هزت وضربت الدولة الاسلامية في الصميم هي واقعة الطف والتي تعتبر اكبر واقعة عقائدية على مر التاريخ، فمن الخطأ ان اعتبر واقعة الطف واقعة عسكرية بحتة رغم ان ظاهرها ذلك، ولكن عندما ندرس هذه الواقعة وما تركته من بصمة في التاريخ الاسلامي يثبت صحة كلامنا. ان اثر واقعة الطف ترك بصمات اجتماعية وسياسية وعقائدية باقية مع بقاء المجتمعات وحتى على تاريخ العالم الحديث وخير ما نستشهد به قول الشاعر وهو يصف دوام تاثير واقعة الطف فيقول :
فجائع الايام تبقى مدة و *** تزول وهي الى القيامة باقية
نلاحظ هنا ان الشاعر اشار الى عظم الفاجعة وانها باقية مع بقاء الخلق ومتجددة ويجب ان نستفاد من التجدد لهذه النهضة الاصلاحية الشاملة التي قام بها ابن رسول الله عليه السلام وان لا نركن الى البكاء والرثاء فقط ولكن يجب ان نستمد من هذه النهضة ما اراد منا الحسين عليه السلام ان نتعلمه او نسير على الخط الذي رسمه الامام .
من الاثار التي تركتها ثورة الامام على الساحة هو انه ظهرت تيارات كثيرة واحدى هذه التيارات تبنت الفكرة الاتية او طرح التساؤل الاتي :
هو انه في حالة وجود سلطان حاكم طاغية ظالم متسلطة على رقاب الناس (وليس بالشرط ان يكون هذا النظام في الدول الاسلامية لان نهضة الامام نهضة عالمية) وهذا الحاكم يعيث في الارض فسادا ويتحكم بأعمارهم وامصارهم فهل يحق لهذه الائمة ان تثور عليه وتنبذ الظلم عن كاهلها لتحق الحق، ام عليها ان تكتفي بالدعاء الى الله وان تنتظر اجل الله لينهيهم من هذا الطاغية ؟
لقد ولد هذا التساؤل لدى الانسان صراع داخلي مرير على مر الزمان وجاء سبب هذا التساؤل هو كيف اني لا انصر الحسين في حياته او مماته؟
فبالنسبة للقريبين زمناً من النهضة الحسينية او الذين عاصروا لتلك الفترة طرح هذا السؤال عن عدم نصرة الحسين وكيف انهم خذلوا ابن بنت رسول الله عليه السلام وخذلوا الاسلام حيث ان الحسين عليه السلام كان يمثل جده ويكون سبب الخذلان عدة اسباب، اما الجبن او البعد او عدة عوامل اخرى تجعل الضمير يدفع للثورة الداخلية في النفس وهذه الثورة تدفعه الى التحرك والمضي في تغيير الحال، وهذا التغيير ليس بالضرورة ان يكون تغييرا مسلحا او مقاومة عسكرية فكما هو معروف ان المقاومة او الاصلاح تأخذ عدة صور واشكال فقد تكون ذات اطار فكري توعوي تقوم بنصح الناس وتعريفهم بالأدوار المنوطة بهم في كيفية مجابهة هذا الظالم او الرفع بالمجتمع ليصل الى درجة الوعي والمسؤولية من اخطار هذا الظالم وكيف ان اسرافه في كفره وظلمه يعود بالتالي على اسرهم واهليهم.
او قد يكون الاثر في الثورة اثر تطبيقي، يحفز مجموعة من الناس ممن يتصفوا بالجرأة ليقودوا الناس من اجل رفع الظلم بقوة السيف وتنطبق هذه الحالة على حركة التوابين ونظيراتها في التاريخ الاسلامي او مثل الانتفاضة الشعبانية في العصر الحديث.
ومن جملة الامور الاخرى التي يستفاد منها في واقعة الطف وترمي ظلالها عليها هي مسألة الخلاف الفكري الذي نشأ حول هذه الفاجعة بين مفكري المسلمين، وقد حاولت بني امية ومن خلفهم من بعهدهم من تطويق وتحجيم فكر وابعاد ثورة الحسين عليه السلام وكل حسين من بعده (حيث ان لكل عصر حسينه)، فوظفوا رجالاً كان كل همهم تشويه وتحجيم هذه الثورة.
حيث اشاعوا وشجعوا فكرة عدم محاربة الظلم وترك الظالم لربه والايام وان محاربة الظالم ستخلف مشاكل وتفرقة اجتماعية مما تؤدي الى تفرقة المجتمع (مع وضد ومحايد)، وقد نجحت الدولة الاموية بخصوص هذا المشروع بجزء وفشلت بأجزاء واصبح هذا المعتقد سُنة الى يومنا هذا. وهذا ضد تشريع الخالق للجهاد، وبالحقيقة ما وصل الاسلام لهذه المرحلة الا بجهاد المسلمين وتضحياتهم وعلى راسهم آل رسول الله عليهم الصلاة والسلام ، ونجحت الدولة الاموية ثم العباسية ومن بعدها الدولة العثمانية وحتى البعثية في العراق وسوريا في محاربة فكرة الجهاد ضد الظالم وقمعوا كل من تبنى هذا الفكر الشريف.
ومن جملة الاساليب التي مارستها هذه الدول في محاربة واقعة الطف وكل عمل اصلاحي هو وضع الحديث عن رسول الله (ص) وخاصة الاحاديث التي لها علاقة بالعقيدة والفكر الاسلامي الصحيح من اجل توهين وتضعيف الاسلام ورجاله وحتى يوجدوا مخارج شرعية لأفعالهم المخالفة للشريعة ومن هذه الاحاديث التي وضعوها عن رسول الله هو (صلوا وراء كل بر وفاجر) لكي تصح ولاية وخلافة الفجرة بينما الحديث الصحيح يقول (اجعلوا ائمتكم خياركم فأنهم رفدكم فيما بينكم وبين خالقكم). ومن هذه الطبقة المتملقة التي تحابي رجال السلطة والفسقة والواضعين للاحاديث والافكار الهدامة موجودة في كل عصر ومصر من شعراء وادباء و مفكرين يعتاشون على التملق والكذب.
ومن هذا المنطلق فقد ظهر من ينعتون انفسهم بمفكرين وفلاسفة في العصور الحديث تحاول ان تنتقد الامام الحسين (ع) وتنتقد خروجه مع اهله وتحاول النيل من منزلة الامام الحسين وتملي عليه تكليفه الشرعي وتعطي لنفسها الحق في تقويم وتصحيح مسار الامام الحسين، وكأن الامام لا يعرف تكليفه الشرعي ومتى يقوم ومتى يقعد واين يصلي او تصوره غافلاً عن بعض امور دينه.
اليس هو ابن بنت رسول الله ؟
اليس هو من يدور الحق معه حيثما دار ؟
اليس هو احد الثقلين ؟
اليس هو احد سادة شباب الجنة ؟
اليس هو امام قام او قعد ؟
اليس ... ؟ اليس... ؟ اليس... ؟
هنالك تشابه بين القرآن وواقعة الطف فكل قارئ للقرآن الكريم وآياته يستخلص منه معنى معيناً وهدفا خاصا كل حسب قراءته وفهمه، وكذلك واقعة الطف فكل متتبع لأحداثها وفصولها يستمد عبرة خاصة ونفحة من نفحات العطر الجميل الذي يفوح منها فدوامها وتجددها من تجدد القرآن الكريم.
ويقول ارباب صناعة السجاد والمحترفين في هذا المجال ان سجادة الكاشان الاصلية ذات الصناعة الفاخرة كلما مر عليها الزمان تزداد جمالا وروعة ونظارة فكذلك ثورة الامام الحسين كلما مر بنا الزمان تزداد هذه الثورة جمالا وقوة وتشع علينا بأفكار وهبات جديدة.
ستبقى واقعة الطف في قلوبنا كحدث وقع ليلة امس جمرة لا تنطفئ جذوتها وحرارتها ما بقيت شمس مشرقة وارض تدور....