العالم المعاصر جعل الزمن ببعدين بعد أن ألغى الماضي من وعيه , فتحول العقل إلى آلة منهمكة بمفردات وعناصر الحاضر , ومتطلعة إلى مستقبل آخر يختلف عمّا هي فيه من التفاعلات المتوالدة الواعدة , فما عاد هناك فائدة من الماضي أو النظر للوراء , لأن أية إلتفاتة تعني إعاقة وتبديد للطاقة والزمن , فالدنيا في سباق شرس وبإندفاعات مطلقة نحو الآتي الأصيل المتجدد , بل أن العالم المعاصر يعيش في الغد ولا يستكين لإرادة اليوم.
هذا المنطوق التواصلي لم يحصل في مسيرة البشرية , مما يعني أن كلمة تأريخ ربما ستُلغى من المعاجم وتغيب عن وعي الأجيال , فكل ما في الحياة يتحرك بطاقات الآتي , ولا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يُعتقل في الماضي , إذ لا يتحمل أية إعاقة أو عثرة أو هوّة , ففي ذلك يعني أن هناك مَن سيسبق ويقطع أشواطا بعيدة في مسيرته المتوثبة نحو الغد.
هذه الآلية التفاعلية تحكم المجتمعات المتقدمة , وتؤسس لمسيرة متوهجة بالطاقات والأفكار والتطلعات المتنوعة , والإستثمارات الرائعة في ميادين الحياة المتشاسعة , وفي هذا يكمن معنى التقدم وجوهر الحياة المعاصرة المتدفقة بالحيوية والنشاطات الإبداعية الأصيلة.
والمجتمعات التي ألغت هذين البعدين وتمحنت في البعد الماضوي , هي المجتمعات التي تساهم في مسيرة إنتحارية تقضي على وجودها وتمحقها , وتحولها إلى جثة هامدة تدوسها أقدام القوافل المتسابقة في مسيرة الإمساك بخطوات غدها الجديد.
ومجتمعاتنا متوحلة في ماضيها , والذي يتمحن بماضيه لا يُرتجى منه إلا الأوجاع والأنين , وهدر الطاقات والقدرات وبعثرة الوجود والتعفن في مكانه , والتحول إلى بائس حزين.
أي أن المجتمعات الماضوية مجتمعات يائسة كئيبة دامعة الوجوه , معبأة بالحسرات والحرمان والقهر والذل والهوان , وهذه المفردات الإكتئابية تدفعها للقيام بأعمال سلبية متوافقة مع ما فيها من سيئ الأفكار , فتجدها في مستنقعات التلاحي والتصارع والخراب والدمار الفتاك بما يشير إليها , ويُظهر سماتها وقيمتها ودورها الإنساني.
وأمتنا ماضوية الرؤى والتطلعات والطباع , ولهذا فأنها تنحدر بسرعة مروعة إلى ما وراء الوراء , وتقبع في صناديق الويلات وخنادق التداعيات المرعبة.
ولن تتفاعل أمة مع الحياة إلا بإلغائها البعد الماضوي من وعيها الزمني , وتمسكها بمفردات حاضرها وبراعم مستقبلها لكي تكون!!
فالأمم التي لا تتفاعل مع حاضرها لن تصنع مستقبلها!!
والماضويون أعداء حاضرهم ومستقبلهم!! |