على ضوء رؤية المفكّر الإيراني عبدالكريم سروش بأنّ للنبي (ص) مشاهداتٍ وَحْيَوِيّة ، وأنّه (ص) كان راوياً لتلك الرؤى والمشاهدات ... إلى سائر إشعاراته وتلويحاته وإشاراته واستنتاجاته التي أدنى ماتغرسه في الأذهان الفتيّة وذوي الخلفيات المعرفية الأولية هو التشكيك بتفاصيل ميكانيكية التواصل بين الباري تبارك وتعالى والنبي الأكرم (ص) ، حتى يضع مسألة الوحي قبال استفهامٍ انحرافي خطير..
على ضوء ذلك ، لنا أن نتساءل ببساطة واضحة :
كم كان عمره الشريف (ص) لمّا بدأ نزول الوحي عليه ، أو لمّا شرع بإعلان وتبليغ الرسالة ؟
كم ساعة كان ينام (ص) في اليوم الواحد ؟
كم ساعة في اليوم كان (ص) يمارس مهامّه العبادية وهو حاضرٌ كنبيٍّ مرسَل ؟
كم ساعة كان (ص) يمارس وظائفه بين الناس في شتى القضايا والشؤون ؟
كم ساعة كان (ص) يمارس وظائفه الأُسرية ، مع تعدّد الزوجات ؟
كم أخذت الرحلات والحروب وسائر المسائل والمشاغل من وقته الشريف (ص) ؟
كم ...
إزاء هذا البرنامج المزدحم المضغوط الممتلىء حركةً وفاعليةً دائبتين ، في مجتمعٍ متقارب متواصل اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً ليلاً ونهاراً ، ولاسيما بالنسبة لرجل قريشي شهير مثل النبي محمد (ص) المعروف تاريخياً بارتباطه الوثيق مع الناس إثر سجاياه النبيلة وخلقه الرفيع وأدبه الفريد وتدبيره الكبير .. وفي ظلّ شروط ذلك العصر والعادات والتقاليد المعقّدة الشاقة التي تفرض عليه حضوراً ميدانياً فاعلاً دوّاماً..
إزاء كلّ ذلك وإزاء المحتوى الثرّ والمادة المعرفية الهائلة المودعة في القرآن الكريم من الأحداث والإخبارات والأحكام والبصائر والمناهج وعشرات بل مئات الموضوعات والأبحاث المغموسة في هذا الكتاب الإلهي الخالد ، وبتلك الفصاحة والبلاغة والرصف اللغوي المثير، وبالجمالية الأخّاذة والأنغام المموسقة المهيّجة للعقول والقلوب على السواء ..
إزاء هذا وذاك وماسواه ، فكم نام النبي (ص) طوال حياته المباركة حتى تمكّن أن يروي لنا ويرفدنا بكلّ ما ورد في القرآن من آيات وسور باهرات بالروعة والشموخ المنقطعي النظير ، ناهيك عن الأحاديث القدسية حيث البحث المستقلّ بها جدير ؟!
فعلى الرؤية السروشية فإنّ النبي (ص) وطبق المحاسبات الرياضية والموازين العقلانية لو نام أضعاف عمره الشريف لَما استطاع أن يتحفنا بما أتحفنا به من المنتوج الإلهي الأزلي القديم ، هذا الموجود بين الدفّتين ، المسمّى بالقرآن الكريم..
إلى ذلك : فلو كانت رسالة النبي (ص) مجرّد مجموعة منامات ، أوعلى ضوء رؤية تيودور نولدكه الفيلسوف الألماني حين وصف القرآن والوحي في كتابه الشهير " تاريخ القرآن " بكونه مزيجاً من الخزين المعلوماتي المحمدي ، ومن شاعريةٍ وخيالٍ وحسٍّ مرهفٍ امتاز بها صدره المبارك(ص) .. فماهي إذن ميزته النادرة (ص) عن سائر الناس ؟!
ثم لو افترضنا أنّها حزمة منامات لاغير فلِمَ لم تحصل لغير النبي (ص) من سائر الناس ؟!
نعم ، كان الوحي على تواصلٍ مع النبي (ص) أنّى شاءت الإرادة الإلهية ، في اليقظة أو النوم ، في السفر أوالحضر ، في الحرب أو السلم ...
ثم لابدّ أن تتميّز تواصلات النبي (ص) الوَحْيَوِيّة كمّاً وكيفاً ، تلقّياً وإرسالاً ، فهماً وتبياناً ، أُسلوباً ومنهجاً وأداءً ... بما يتناسب وعظم المهمّة المصيرية وخطورة المأمورية الربّانية ، بما يتناسب وشخصيته الفذة (ص) ، وإلّا لَما اختلف الحال وصار كلّ البشر رسلاً وأنبياء..
أضف إلى ذلك : فمَن ذا الذي بإمكانه سبر الغور في عالم الغيب إدراكاً واستيعاباً وبلورةً - ناهيك عن عالم الشهادة - كغور محمد (ص) ذي الخصائص والصفات الباسقات التي طالما أذعن بها المناوىء قبل المآلف والممانع قبل الموافق ؟!
إنّ حضور الإسلام المتواصل في الحياة الإنسانية بهذا النحو المثيرالهائل يعني أنّه طبق المعادلات والمعايير المنطقية العقلانية دين سماوي بالكامل .. وأنّ بيبلوغرافيا القرآن الكريم بحاصلٍ معرفي تخصّصي مكتوب فاق العشرة آلاف أثر تثبت أنّه صنعة إعجازية إلهية دونها القدرات الإنسانية مهما بلغت من الشموخ والتكامل .
إنّ محمد بن عبدالله (ص) هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، وأنّ القرآن الكريم هو صادرٌ إلهيّ قديم ، نازل ٌعلى صدره الفهيم عبر الوحي الربّاني العظيم ، وهو كتاب الله الموجود بين الدفّتين بلا زيادة ولانقصان ولاتحريف ولاتثليم ، بتواصلٍ حقيقيٍّ سليم ، فلاخيال ولاإيحاءات ذاتية ولااستنباطات اجتهادية ولاتفسيرات شخصية ياعبد الكريم .. علّك تفيق من نومة الليل البهيم .. فلا ذاك القبض ينفعك ولا الانبساط الذميم . |