• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ثقافة من خشب. .
                          • الكاتب : مصطفى الهادي .

ثقافة من خشب.

 رحلتي في عالم العقول دلتني على ان هذه العقول لا تقرأ لها . بل تقرأ لغيرها ، المعنى أن هذه العقول تبحث عن الاسماء اللامعة والمشهورة ، وما تكتبه هذه الاسماء تنثال عليها هذه العقول وتفاعلت ، حتى وإن كان هؤلاء اصحاب الشهرة مجرد قشرة خفيفة من الذهب المغشوش التي تخفي تحتها فراغا مقحلا مجدبا. 
كان صديقي ـــ وهو كاتب مبتدئ ـــ ولكنه كان مبدعا مفلقا حمل كتابه الذي كتبه وأخذ منه ثمرة سنين من شبابه ، واخذ يدور به على المطابع لعل صاحب مطبعة يلحضه بعين القبول ولكن خابت آماله ففي كل مطبعة كان يُجابه بنفس الكلام (أنت لست كاتبا مشهورا ، واسمك مغمور). ونصحه احد اصحاب المطابع قال له : اخي الكاتب انك كاتب مغمور ولا يعرفك السوق ولكني انصحك اذهب إلى كاتب مشهور لكي يكتب مقدمة لكتابك .
فقال له (الكاتب المبتدئ) : اعطني اسما لامعا في عالم الكتابة والتأليف لعلي احضى منه بلفتة عطفٍ فيتصدق عليِّ ببضع كلمات يُطرز بها مقدمة كتابي.او أن يتقدس كتابي برذاذ فمه المتطاير وهو يلقي عليه موعظة في الادب الميتافيزيقي. 
قال له صاحب المطبعة اذهب إلى الأديب (فلان الفلاني) فهو انسانٌ طيّب يُشجع على العلم. 
ذهب (الكاتب المبتدئ) ولهفته تسبقه كلهفة الغريق في لجج البحار، وطلب من الأديب المشهور بأن يكتب لمقدمة لكتابه تكون بمثابة جواز مرور إلى المطابع . واوعده (الأديب المشهور) خيرا . ومضت الشهور والأديب عن الأنظار مستور. ولما اصاب اخونا اليأس والاحباط ، اخذ كتابه من دون ان يكتب عليه (الكاتب المشهور) اي حرف أو أن يسفح عليه من خجله قطرة عرق واحدة. 
فقرر هذا (الكاتب المبتدئ) أن يُثبت للعالم أن لا شهرة إلا للمحتوى ، فكثيرٌ من علب الصفيح الفارغة تُحدث رنينا عاليا. وأن تحت القشور عفنٌ تشمئز منه النفوس. 
فأخذ رواية لهذا (الأديب المشهور جدا) وغيّر عنوانها واسم كاتبها . وكتب عليها اسمه ، ثم ذهب إلى المطابع ودار عليها واحدة واحدة وأجمعت لجان المطابع أن هذه الرواية لا تصلح للنشر لأنها رواية فاشلة بكل المقايسس ولا تستحق الحبر الذي كُتب فيها. 
عندها جمع هذا (الكاتب المبتدئ) كل لجان المطابع وقال لهم : هل انتم متأكدون أن هذه الرواية فاشلة لا قيمة لها؟ 
فقالوا : نعم ، وبكل مقاييس الفشل ولا تستحق حتى الورق الذي سوف تُطبع عليه . 
فقال لهم : هل تعلمون أن هذه الرواية هي (للأديب المشهور جدا) الذي ارسلتموني إليه ليضع بركاته على كتابي ، وانا رفعت العنوان وإسم الكاتب ووضعت عليها اسمي. 
وجمَ القوم وصُدموا وعلموا حينها كم كان هذا العقل مخدوعا بالاسماء وعلموا ايضا أن الأسماء لا تعني شيئا بقدر المحتوى ، وعلموا أيضا أن العقول لا تقرأ لها بل لغيرها. ومن هنا كان الجهل فاشيا. وضاع في لجج العقول الكثير من جهود المبدعين. 
وكم يعجبني ذلك الكاتب الذي كان مولعا بقراءة كتاباته شغوفا بمطالعة رشحاته فكان يكتب المقالة ويُعيد قراءتها عدة مرات وهو يُطوّحُ رجليه في الهواء فرحا. وكان سعيدا جدا. وسألته يوما : لماذا تفعل ذلك ؟ 
قال لكي اخدع نفسي اولا ، وعندما احكم عملية خداع نفسي سوف اخدع الاخرين. 
قلت له كيف؟ 
قال لا تسألني كيف لأني مبهورٌ جدا حد الغشية من كذبة (كاتب الوحي) التي مازالت تنطلي على مليارين ينتمون لهذا الدين. مع أن هذا الكاتب لم يكتب حرفا واحدا. بل كان محاربا للوحي طيلة اكثر من سبعة وعشرين عاما ولكنه في فترة قصيرة اصبح اشهر من الوحي نفسه .
 
ولذلك أعيد قراءة ما اكتبه لعلي يوما اصدق أني كتبت هذا ، وانه من وحي نفسي ، لأني أرى دائما أن الآخر لا يقرأ ليفيد عقله بل يقرأ لعقل غيره. 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=83100
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 09 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13