يبدو لي أن طوماس هوبز وجون جاك روسو اختلفا حول الطبيعة البشرية..في النهاية كلّ منهما جنح إلى فكرة واحدية أسندها باليقين..الطبيعة الشرّيرة التي تجعل الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان(هوبز) أم الطبيعة الخيرة التي تجعل الإنسان مثل الحمل الوديع هو إلى الذعر والفرار أقرب منه إلى العدوان، هذا الأخير (العدوان) هو مكتسب وليس فطريا..المشكلة هنا ليست في الميل إلى هذه الفكرة أو تلك، بل المشكلة في طبيعة نظرة كلّ منهما للإنسان كما لو كان حقّا واحدي الاتجاه، هذا في حين أنّ الإنسان كائن ذو طبيعة تناقضية..فذاته تحتوى الخير والشّر وأنّه ليس خيرا محضا، ولكي يصبح خيرا محضا يتطلّب ولادة ثانية تتكفّل بها التربية..الخير المحض ليس معطى لذات تناقضية الميول بل هو أمر مكتسب بكدح تربوي..وبما أنّ الإنسان ذو طبيعة مزدوجة فإن الحاجة إلى القوانين يفرضها احتمال غلبة الشّر أو إنّ القوانين تساعد الجانب الخير على أن ينتصر على الجانب الشرير..فالقوانين التي تفترض وجود الضمير تستند إلى الجانب الخير لقهر الجانب الشرير في الإنسان نفسه..وجدت التربية والقوانين لاستكمال دورة الكائن في اتجاه تكامله..فثمة صراع داخل الكائن، حيث قد يحصل الكمال في جهة الخير كما يمكن أن يحصل الكمال في جهة الشّر..نعم يمكننا الحديث عن الكائن الشرير المحض أو الخيّر المحض ليس من جهة الطبيعة بل من جهة الشروط الاجتماعية والنفسية التي يصار إليها بفعل الحياة الجماعية..إنّ الإنسان يوجد ملهما الطبيعتين، حيث ظروفه الاجتماعية هي التي تحدّد حالته الجديدة..في الغالب الطبيعة لا تمنحنا كائنا واحديّ الطبع، بل المجتمع هو من يحدّد نسبة الخير ونسبة الشّر في الكائن..إذن لم يعد مهما الحديث عن الطبائع بل بات اليوم ضروريا الحديث عن الثقافة باعتبارها بديلا عن الطبيعة..وهذا يعني أنّنا أمام شكل من العلاقة بين الثقافة والقانون..الثقافة والجريمة..فالثقافة هي التي تخرم ازدواجية الطبيعة لصالح الطبع الواحد..فالإنسان قد يكون شريرا بثقافته لا بطبعه، وخيرا محضا بثقافته لا بطبعه..باختصار نقول: الإنسان ليس شرّيرا فقط وليس خيّرا فقط، إنّه كلاهما بالقوّة والثقافة هي المحفّز الذي يجعل أحدهما بالفعل والآخر بالقوة..يجب أن يراعي القانون الثقافة أكثر من الطبائع..بالنتيجة نجد أنّ الطبيعة التناقضية للإنسان انعكست على بنية القانون نفسه، فجعلت القانون أحيانا يقف ضدّ القانون..في مثل هذه الحالة تتغيّر فلسفة القوانين لا سيما حينما يتعلق الأمر بالعقوبة..لا قيمة للجانب الردعي في الأحكام الجزائية إذا كانت الجريمة نابعة من طبيعة شريرة، سيكون ذلك بمثابة ثأر.. بل لا يتصوّر أن تنبثق الجريمة من ذات خيرية محض..إنّ الجريمة هي حصيلة تفاعل ذات تتنازعها قوى وملكات وغرائز وميولات كثيرةة..لا يكون للقانون وظيفة ردعية إذا لم يكن هناك طبعان يتنازعان الكائن..في علم الإجرام نتحدّث عن أنواع من المجرمين، ولكن الغالب اليوم ليس ذلك الرأي الذي يعتبر الجريمة وراثية، مع أنّ للعلم رأي في حالات كثيرة، ولكنها ليس هي الغالبة، ولا يمكن أن نحاكم النّاس على أساس طبائعه بدل أفعالهم، فالقانون له بعد تربوي ولكنه ليس كلّه تربية، ففي حالات هناك الجانب الإجرائي الذي يفرض حماية المجتمع مع حالات المجرمين الفطريين بتفعيل قوانين العزل..يستطيع الكائن المزدوج الطبيعة أن يحوّل القوانين من إجراءات ومبادئ رادعة إلى إجراءات ضدّ العدالة..وذلك بسوء تأويل النصوص القانونية والتحايل عليها وجعلها أيضا ميدانا مرتهنا لتنازع قوى الخير والشّر في الإنسان..
|