بسم الله الرحمن الرحيم
{ عقيدتنا في القضاء والقدر}:
قال الشيخ المظفر: (واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار عليهم السلام من الأَمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام، ففرَّط منهم قوم وأفرط آخرون، ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلاّ بعد عدة قرون)[38]. ويؤكد دعواه في اكتشاف العلم والفلسفة لصحة عقيدتنا في (الامر بين الأمرين) فيقول: (وليس من الغريب ممَّن لم يطّلع على حكمة الأَئمّة عليهم السلام وأقوالهم أن يحسب أنّ هذا القولـ وهو الأمر بين الاَمرينـ من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون. فقد قال إمامنا الصادق عليه السلام لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: «لا جبر ولا تفويض،ولكن أمر بين أمرين»)[39].
ولم يبين الشيخ المظفر من هم اولئك الفلاسفة الذين توصلوا فلسفياً الى صحة عقيدتنا (الامر بين الامرين) وكذلك لم نعثر على احد من اولئك الفلاسفة الغربيين الذين ذهبوا الى ذلك. واما العلم فأيضاً كان الاستشهاد به مجهولاً ، اللهم الا ان يقال ان المثال الذي ذكره السيد الخوئي (قده) لتفسير مفهوم (الامر بين الامرين) هو مثال مستمد من العلم والمكتشفات الحديثة ، الا ان ذلك لا يعني انه يمكن اثبات عقيدة (الامر بين الامرين) بصورة علمية عن طريق التجربة او غيرها من الطرق العلمية !
ان حشر المؤلف للفلاسفة في موضوع اثبات قضية دينية هو امر غريب ، ولا يمكن تفسيره الا بمحاولة المؤلف الانتصار لمذهبه الفلسفي والترويج له فيصور الامر وكأن العقيدة الدينية ملتصقة بالفلسفة ! والحقيقة غير ذلك. ففلاسفة الغرب لم يتحدثوا عن حقيقة (الامر بين الامرين) بل تحدثوا عن (الحتمية التاريخية والحتمية الكونية) وانقسموا بينهما ، " في التاريخ العقلي الفلسفي نلتقي نظريتين تنطلقان من منطلق الحتمية. إحداهما : تخص السلوك الانساني ، الفردي والاجتماعي خصوصاً. والأخرى : تتعلّق بالنظام الكوني عموماً. فتتجه النظرية الأولى إلى الإيمان بحتمية السلوك الانساني وتعطيل إرادة الإنسان ، وسلب أي دور لارادته في سلوكه. وتتجه النظرية الثانية إلى تثبيت الحتمية في النظام الكوني بشكل عام ، وتذهب إلى أن الكون كلّه يتحرك ضمن نظام دقيق بموجب قانون العلّية. وهذا النظام يجري ضمن حلقات متسلسلة ، كلّ حلقة منها ترتبط بالحلقة السابقة واللاحقة. ضمن نظام حتمي لا يمكن أن يتغير ولا يمكن أن يتخلف ، ولا يمكن ان تتدخل إرادة أحد ـ مهما كان ـ في تغييره. ولو افترضنا أنّنا اطلعنا على رؤوس هذه الحلقات في النظام الكوني العام ، وأمكننا قراءة التسلسل النظامي لحلقات هذا النظام ، أمكننا التنبؤ بكل ما يجري في الكون من الأحداث إلى أن ينتهي أمد هذا الكون. وهاتان النظريتان تجريان في كل من الاتجاهين الفكريين المعروفين ؛ الاتجاه الإلهي ، والاتجاه المادي على نحو سواء. فإنّ طائفة من الذين يؤمنون بالحتمية في سلوك الإنسان وتاريخه يؤمنون بالله تعالى ، ويذهبون إلى أنّ مصدر هذه الحتمية هو الله تعالى. بينما يذهب آخرون من الاتجاه المعاكس (الاتجاه المادي) إلى نفس النتيجة من منطلق قانون العلّية أو النظام الفكري الديالكتيكي. فيذهب كل من هذين الاتجاهين إلى الحتمية في سلوك الإنسان وتاريخه على نحو سواء. وكذلك الحتمية الثانية (الحتمية الكونية) لا تختص بهذا الاتجاه أو بذلك الاتجاه. فمن الممكن أن يذهب إلى هذه الحتمية أصحاب الاتجاه المادي أو الإلهيون.
واليهود من (الإلهيين) الذين يذهبون إلى هذا الاتجاه في الحتمية الكونية. يقول تعالى : ((وقالت اليهود يَدُ الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان)) ( المائدة 5 : 64 ). كما أنّ في المسلمين طائفة واسعة وكبيرة وهم ( الأشاعرة ) يذهبون إلى هذه الحتمية في سلوك الانسان. والماركسيون من الاتجاه المادي يذهبون إلى هذه الحتمية في تاريخ الإنسان.
النتائج السلبية لهاتين الحتميتين :هاتان الحتميتان تؤديان إلى نتائج سلبية في التاريخ العقلي للانسان ، كما تؤديان إلى نتائج سلبية في التاريخ السياسي للانسان. فإنّ النتيجة التي تؤدي إليها هاتان الحتميتان بالضرورة هي افتراض وجود نظام قاهر في الكون، يمتنع على كلّ تعديل وتغيير وتبديل ، وهو بمعنى تعطيل سلطان إرادة الله تعالى ، وعدم الاعتراف بنفوذ سلطانه تعالى على النظام الكوني. هذا في الحتمية الكونية. والنتيجة الضرورية التي تؤدي إليها الحتمية السلوكية والتاريخية للانسان هي الإيمان بتعطيل ارادة الانسان"[40].
هذا على صعيد الفلسفة الغربية ، اما على صعيد الفلسفة التي حملها بعض الشيعة ، ولاسيما المنهج (الصوفي- الفلسفي) لمدرسة الحكمة المتعالية الشيعية التابعة لتراث ابن عربي ، فيتحدث سيد كمال الحيدري شارحاً الموقف الفلسفي لجماعة الحكمة المتعالية من هذه العقيدة مبيناً وجود الاختلافات في فهم (الامر بين الامرين) بين اساطين علماء الشيعة كالسيد الخوئي (رض) والسيد محمد باقر الصدر (رض) من جهة وبين ملا صدرا واتباعه في مدرسة الحكمة المتعالية من جهة ثانية ! فيقول محاولاً الانتصار لمنهجه (الصوفي- الفلسفي) ومهاجماً منهج السيدين الخوئي والصدر (رض):
(السيد الخوئي قدس الله نفسه والسيد الصدر الذي الآن اختاروا أن الله فاعل بعيد، وأن الإنسان فاعل قريب، سؤال: ماذا اختاروا من الناحية الفلسفية؟ اختاروا نظرية المشائيين أو نظرية الحكمة المتعالية؟ الجواب: تعالوا معنا إلى السيد الخوئي في المجلد الثاني من المحاضرات للشيخ إسحاق فياض صفحة (80) هذه عبارته قال إن منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي، هذا في قبال نظرية المشائيين الذين يقولون الإمكان الماهوي، لا الإمكان الوجودي، يعني أن الفقر عينها لا أن الفقر خارج عنها) ... الى ان يقول: (على هذا الأساس هذه كلمات السيد الخوئي تعالوا إلى السيد الصدر قدس الله نفسه في فلسفتنا الذي هو مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر هناك في صفحة (351) هذه عبارته يقول فسوف نقتصر على نظرية الإمكان الوجودي أي الرأي الصحيح في الاختلاف الفلسفي الأعمق الذي أشرنا إليه فهو يعتقد بنظرية أصالة الوجود ونظرية الإمكان الوجودي هي هكذا أن الوجود المعلول يعني كل الممكنات ليس له حقيقة إلا نفس الارتباط والتعلق بالعلة اصلاً حقيقته ما هي؟ يعني بعبارة واضحة الممكن شيء له الربط أو هو عين الربط؟ المشائيين يقولون الممكن شيء له ربط بخالقه أما الحكمة المتعالية تقول شيء له الحاجة أو هو عين الحاجة؟، إذاً السيد محمد باقر الصدر تبعاً لأستاذه السيد الخوئي كلهما يعتقد أن الممكنات على مباني الحكمة المشائية أو على مباني الحكمة المتعالية؟ على مباني الحكمة المتعالية، إذا كان الأمر كذلك وهو أنهم يبنون على أن الممكن هو عين الربط بعلته، سؤال الفعل الذي أنا أقوم به ممكن أو واجب؟ إذا كنت أنا ممكن فما بالك، ممكن، فإذا صار ممكناً يكون شيء له الربط أو يكون عين الربط بالله؟ عين الربط، وإذا صار عين الربط يمكن أن يكون الله فاعل بعيد أو لا يمكن؟ إذاً دعوى السيد الخوئي مع أننا نعتقد بمباني الحكمة المتعالية فالفاعل فاعل قريب أو فاعل بعيد؟ يعني مبناه حكمة متعالية ولكنه نظريته حكمة مشائية وهذا تناقض السيد الخوئي والسيد الصدر إما أن يختاروا المبنى المشائي فمن حقهم أن يقولوا فاعل قريب وفاعل بعيد أما إذا اختاروا مبنى الحكمة المتعالية فهل من حقهم أن يقولون فاعل قريب أو فاعل بعيد أو ليس من حقهم ذلك؟ ليس من حقهم، وهذه هي الملاحظة الثانية الواردة على السيد الشهيد وعلى السيد الخوئي) ... الى ان يقول: (فبينما نهى في البعد المعرفي منحاً يقوم على أساس الحكمة المتعالية عاد في النتيجة المستخلصة ليلزم موقف الفلسفة المشائية وهذان يجتمعان أو يتناقضان؟ متناقضان، قال وهذه الملاحظة تمتد لتشمل السيد الصدر إذا كان الملاك في موقفه المعرفي هو ما ذكره في كتاب فلسفتنا الآن لماذا قلت إذا كان مبناه، لأنه السيد الشهيد رحمة الله تعالى عليه في الأسس المنطقية رفع يده عن جملة من مباني الحكمة المتعالية)[41].
وهذا الذي تكلم به سيد كمال الحيدري عما يظنه تناقضاً في نظرية السيد الخوئي والسيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليهما) إنما يكشف ويبرز الخلاف والفجوة الكبيرة في فهم عقيدة (الامر بين الامرين) بين علماء الشيعة الامامية من مدرسة آل البيت (عليهم السلام) والذين يمثلهم السيد الخوئي والسيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليهما) من جهة وبين اتباع ملا صدرا في مدرسة الحكمة المتعالية التي ينتمي سيد كمال الحيدري اليها ، من جهة اخرى. وبناء على ذلك فيكون كلام المؤلف الشيخ محمد رضا المظفر حول أن الفلسفة ايدت حقيقة (الامر بين امرين) وكشفت عن صحتها ، فيه وهن ومجانب للصواب. وربما يكفينا من النص السابق اعتراف سيد كمال الحيدري ان السيد محمد باقر الصدر (رض) رفع يده اي نبذ جملة من مباني الحكمة المتعالية (مدرسة ملا صدرا التابعة لتراث ابن عربي) وذلك في كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء).
ويلخص سيد كمال الحيدري رؤية مدرسة الحكمة المتعالية الشيعية المنتمية لتراث ابن عربي حول حقيقة (الامر بين امرين) بقوله: (بأن هذه النظرية تقوم على أساسٍ واحد وهو أن الفعل الصادر من الإنسان كما أن له نسبة حقيقية إلى الإنسان له نسبة حقيقية إلى الله ومن نفس الحيثية لا من حيثيتين نحن نعتقد نظرية الأمر بين الأمرين تريد أن تشير إلى هذه الحقيقة)[42]. والظاهر ان رؤية سيد كمال هذه مبنية على عقيدته في وحدة الوجود والموجود وهي العقيدة التي يرفضها علماء الشيعة الامامية المنتمين لمدرسة آل البيت (عليهم السلام).
*****
ويقول المؤلف الشيخ المظفر: (وعلى كل حال، فعقيدتنا: أنّ القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك، وإلاّ فلا يجب عليه أن يتكلّف فهمه والتدقيق فيه؛ لئلاّ يضل وتفسد عليه عقيدته؛ لاَنّه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس، ولذا زلّت به أقدام كثير من المتكلّمين. فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي، ويكفي أن يعتقد به الانسان على الاجمال اتّباعاً لقول الأئمة الأطهار عليهم السلام من أنّه أمر بين الأمرين؛ ليس فيه جبر ولا تفويض. وليس هو من الاصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق)[43].
وهنا ينبغي التنبيه على ان المؤلف يخلط بين عقيدتنا في (القضاء والقدر) وبين عقيدتنا في (الامر بين امرين) والتي تناقش تحت عنوان (خلق افعال العباد). فجعل كل (القضاء والقدر) هو (الامر بين امرين) بينما الاخير هو فرع من الاول وليس جميعه.
ومن جهة اخرى عكس النص الذي ذكره المؤلف عقلية الصراع التاريخي بين الفلاسفة والمتكلمين ، والمؤلف باعتباره ينتمي لمدرسة الحكمة المتعالية ينحاز للفلسفة ضد علم الكلام فنجده يقول كما في النص السابق عن القضاء والقدر: (لاَنّه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس، ولذا زلّت به أقدام كثير من المتكلّمين) ! مع ان علم الكلام هو ما علّمه الائمة الاطهار (عليهم السلام) لأصحابهم في مقابل ذم الائمة المعصومين (صلوات الله عليهم) للفلسفة. ومع ذلك يعتبر الشيخ المظفر ان القضاء والقدر هو من القضايا الفلسفية التي لا يدركها المتكلمون ! وكأن آل البيت الاطهار (عليهم السلام) لم يتحدثوا مع شيعتهم عن القضاء والقدر وانتظر الشيعةُ الفلاسفةَ ليشرحوا لهم معناه !!!
القضاء والقدر في عقيدتنا:
في نهج البلاغة عن امير المؤمنين (عليه السلام) انه قال: (ويحك! لعلّك ظننتَ قضاءً لازماً وقدراً حاتماً ، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد. إن اللّه سبحانه أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلّف يسيراً ، ولم يكلّف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعصَ مغلوباً ، ولم يُطعْ مُكرِهاً ، ولم يرسل الأنبياء لعباً ، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً ، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً. ( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَـفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَـفَرُوا مِنَ النَّارِ ... )) ).
وفي التوحيد للشيخ الصدوق (رض): إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عدل من عند حائط مائل الى حائط آخر فقيل له يا أمير المؤمنين أتفر من قضاء الله؟ فقال: (أفرّ من قضاء الله الى قدر الله عز وجل)[44].
يقول الشيخ المفيد (رض): (والوجه عندنا في القضاء والقدر بعد الذي بيناه في معناه أن لله تعالى في خلقه قضاء وقدرا وفي أفعالهم أيضا قضاء وقدرا معلوما ويكون المراد بذلك أنه قد قضى في أفعالهم الحسنة بالأمر بها وفي أفعالهم القبيحة بالنهي عنها، وفي أنفسهم بالخلق لها، وفيما فعله فيهم بالإيجاد له، والقدر منه سبحانه فيما فعله إيقاعه في حقه وموضعه، وفي أفعال عباده ما قضاه فيها من الأمر والنهي والثواب والعقاب، لأن ذلك كله واقع موقعه، موضوع في مكانه لم يقع عبثا ولم يصنع باطلا، فإذا فسر القضاء في أفعال الله تعالى والقدر بما شرحناه زالت الشنعة منه، وثبتت الحجة به ، ووضح الحق فيه لذوي العقول ، ولم يلحقه فساد ولا إخلال)[45].
{عقيدتنا في البداء}:
قال الشيخ المظفر: (البداء في الانسان: أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقاً، بأن يتبدَّل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه؛ إذ يحدث عنده ما يغيِّر رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله، وذلك عن جهل بالمصالح، وندامة على ما سبق منه. والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى. لاَنّه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الامامية.
قال الصادق عليه السلام : «مَن زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم».
وقال أيضاً: «من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه».
غير أنّه وردت عن أئمتنا الأطهار عليهم السلام روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدِّم، كما ورد عن الصادق عليه السلام : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني» ولذلك نَسبَ بعض المؤلّفين في الفرق الاسلامية إلى الطائفة الامامية القول بالبداء طعناً في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة. والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿يَمْحوُا اللهُ ما يَشَآءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾. ومعنى ذلك: أنّه تعالى قد يُظهر شيئاً على لسان نبيِّه أو وليِّه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الاِظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولاً، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة اسماعيل لما رأى ابوه إبراهيم أنّه يذبحه. فيكون معنى قول الامام عليه السلام : أنّه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في اسماعيل ولده؛ إذ اخترمه قبله ليعلم الناس أنّه ليس بإمام، وقد كان ظاهر الحال أنّه الاِمام بعده؛ لاَنّه أكبر ولده . وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبيِّنا صلي الله عليه و اله ، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا صلي الله عليه وآله)[46].
وهذا الذي قاله الشيخ المظفر غير مقبول بتاتاً ، فهو يزعم ان بعض الروايات التي عندنا – واستشهد بإحداها – هي التي توهم بأن الشيعة يقولون بالبداء بالمعنى المرفوض المتضمن (جهل بالمصالح وندامة على ما سبق منه) ! فأين ورد ذلك في الرواية التي استشهد بها بخصوص اسماعيل وهي لا تشير نهائياً الى احتمال ان تكون متضمنه احد هذين المعنيين المرفوضين !؟ بل انه بكل وضوح يمكن القول ان لفظة (بدا لله) الواردة في الرواية الشريفة تعني (ما سبق في علم الله تبارك وتعالى شيء فأراد إظهاره كما سبق في علمه تعالى في اسماعيل) وينتهي الاشكال من اساسه. لأن الامام (عليه السلام) لا يمكن ان يكون مقصوده في البداء غير المعنى الصحيح الذي نعرفه ، بلا شك ولا اشكال في ذلك.
وكان يمكنه ان يدافع عن موضوع البداء عند الشيعة بوروده بنفس اللفظ عند اهل السنة ، حيث الحديث المروي في البخاري عندهم عن ابي هريره انه "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله عز وجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً" الخ الحديث[47].
فلم يكن الشيخ المظفر موفقاً في استخدامه عبارة: (روايات توهم).
{عقيدتنا في القرآن الكريم}:
قال الشيخ المظفر: (نعتقد: أنّ القرآن هو الوحي الاِلهي المنزَّل من الله تعالى على لسان نبيه الاَكرم فيه تبيان كل شيء، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة، وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف. وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزَّل على النبي، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، وكلّهم على غير هدى؛ فانه كلام الله الذي ﴿لا يَأتيِه البطلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾. ومن دلائل إعجازه: أنّه كلّما تقدَّم الزمن، وتقدَّمت العلوم والفنون، فهو باق على طراوته وحلاوته، وعلى سموِّ مقاصده وأفكاره، ولا يظهر فيه خطأ في نظرية علمية ثابتة، ولا يتحمل نقض حقيقة فلسفية يقينية، على العكس من كتب العلماء وأعاظم الفلاسفة، مهما بلغوا في منزلتهم العلمية ومراتبهم الفكرية؛ فانّه يبدو بعض منها ـ على الاَقل ـ تافهاً أو نابياً أو مغلوطاً كلّما تقدَّمت الاَبحاث العلمية، وتقدمت العلوم بالنظريات المستحدثة، حتى من مثل أعاظم فلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو الذين اعترف لهم جميع مَن جاء بعدهم بالاَبّوة العلمية، والتفوّق الفكري. ونعتقد أيضاً: بوجوب احترام القرآن الكريم، وتعظيمه بالقول والعمل، فلا يجوز تنجيس كلماته حتى الكلمة الواحدة المعتبرة جزءً منه على وجه يقصد أنّها جزء منه. كما لا يجوز لمن كان على غير طاهرة أن يمسّ كلماته أو حروفه ﴿لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ﴾ سواء كان محدثاً بالحدث الاَكبر كالجنابة والحيض والنفاس وشبهها، أو محدِثاً بالحدث الاَصغر حتى النوم، إلاّ إذا اغتسل أو توضأ على التفاصيل التي تذكر في الكتب الفقهية. كما أنّه لا يجوز إحراقه، ولا يجوز توهينه بأيّ ضرب من ضروب التوهين الذي يُعد في عرف الناس توهيناً، مثل رميه، أو تقذيره، أو سحقه بالرجل، أو وضعه في مكان مُستحقَر، فلو تعمَّد شخص توهينه وتحقيره ـ بفعل واحد من هذه الاَمور وشبهها ـ فهو معدود من المنكرين للاِسلام وقدسيته، المحكوم عليهم بالمروق عن الدين والكفر بربِّ العالمين)[48].
هذا النص نقلناه بتمامه لننبّه على امرين الاول هو امر مذكور فيه والثاني هو امر خلا منه ولم يذكر فيه !
فأما الامر الاول ، فالمؤلف يحاول في كل مورد ان يربط بين العقيدة الدينية والفلسفة ، فيتصور ان هناك (حقيقة فلسفية يقينية) على حد تعبيره ، وربما يعني بذلك القضايا العقلية البديهية التي هي قضايا يقينية من قبيل عدم اجتماع النقيضين وغيرها وهي قضايا يعتمدها علم الكلام ، فيضفي المؤلف عليها سمة الفلسفة ويحاول اظهارها وكأنها منتج فلسفي فيتصور الناس ان تلك القضايا العقلية الكلامية المشار اليها هي قضايا فلسفية يقينية !!!
ورغم التفاصيل التي ذكرها عن عقيدتنا في القرآن الكريم فإنَّ من اهم المطالب التي تميّز مذهبنا عن الآخرين والتي لم يذكرها الشيخ المظفر ، ربما طلبا منه لتقليل الخلاف وسعياً وراء الوحدة الاسلامية ، المطلب الذي يقول بانه في عقيدتنا يكون القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى الذي خلقه الله عزَّ وجلَّ ، فهو ليس بكلام نفساني ولا بقديم ، بل ان الله سبحانه وتعالى خلقه كما خلق سائر الاشياء. فكلام الله سبحانه وتعالى مُحدَث وغير قديم. وهذا ما لم يذكره المؤلف من ضمن قضايانا العقائدية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[38] عقائد الامامية / الشيخ محمد رضا المظفر (مصدر سابق) – ص57.
[39] المصدر السابق – ص58.
[40] الامر بين الامرين ، دراسة في مسألة الجبر والاختيار / مركز الرسالة ، 1417 هـ – ص(13-15).
[41] بحث (تعارض الأدلة (224) ) في 11 رجب 1435هـ / منشور في الموقع الرسمي الالكتروني لمكتب سيد كمال الحيدري.
[42] بحث (تعارض الأدلة (229) ) في 20 رجب 1435هـ / منشور في الموقع الرسمي الالكتروني لمكتب سيد كمال الحيدري.
[43] عقائد الامامية / الشيخ محمد رضا المظفر (مصدر سابق) – ص58.
[44] التوحيد / الشيخ الصدوق (رض) / تصحيح السيد هاشم الحسيني الطهراني / مؤسسة النشر الاسلامي – ص369.
[45] تصحيح اعتقادات الامامية / الشيخ المفيد (رض) / تحقيق حسين درگاهي / دار المفيد للطباعة والنشر في بيروت / الطبعة الثانية ، 1993م – ص56.
[46] عقائد الامامية / الشيخ محمد رضا المظفر (مصدر سابق) – ص59.
[47] صحيح البخاري / كتاب أحاديث الأنبياء / حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل.
[48] عقائد الامامية / الشيخ محمد رضا المظفر (مصدر سابق) – ص77 و78.