لازلنا على الأقل منذ الجيل العربي الأول حتى الثالث منه على الأقل ندرك خطورة التموضع العربي للفلسفة..لم نأخذ خطابها وتجاربها بالخفّة التي نلاحظها اليوم حيث الفوضى أحرقت كلّ الحقول..كأنّ روحا شريرة تريد الهيمنة عى العالم سمتها الأساسية هي تسطيح كل النتوءات الجميلة في هذا العالم وفتح المجال أمام الرّداءة والتبسيط..والتبسيط هو غير البساطة المحمودة في لغتنا الدارجة..إنّ التبسيط هو إرادة تغيير طبيعة الأشياء..هو عدوان موصوف على التعقيد الذي يفرضه الواقع على النظر..تبنى التموضعات الفلسفية بأساليب بناء المعبد..ويسعى المرضى إلى تعويض الخواء الروحي والفلسفي بالعجرفة والخداع..بينما الفلسفة منذ ميلادها الأول جاءت لتهدم الأصنام..أصنام العجرفة والأنانية والخداع وأيضا المصلحة بالمفهوم الميركونتيلي..الفيلسوف مكافح وليس شغّيلا..يكافح الزور والبهتان وكل الظواهر التي ابتكرها السامري التائه على هامش مشروع عبادة العجل..في هذا الكون الفلسفي الكبير توجد رقابة فلسفية سرّية منظّمة تستطيع في كل لحظة أن تعيد السؤال الإبراهيمي على الآفلين..وتحطّم أصنام الجاهلين..وهذه مهمّة أخرى على عاتق محبّي الحكمة، أن يطهّري العالم من الخداع الذي يتعرض له وادي الفلسفة المقدّس..فالتحشيد شأن للصوص المعابد لا لفرسان الهيكل الفلسفي.. تساؤلات جدير بنا أن نقف عندها وهي أمثلة ليست محصورة..
روح الفلسفة ونصيب المفكر العربي اليوم منها...مدرسانيّ أم خبرة وجودية حقيقية؟ ما هي حدود التجربة الأنطولوجية؟ ما أثر التقليد في تفلسفنا؟ هل يلتقي التقليد والتجربة أم أنهما حالة مفارقة باعتبار أنّ التجربة إبداع؟ هل ثمة علاقة بين الإبداع والأخلاق؟ هل السرقات الأدبية تؤهّل للأبداع؟ هل الأمزجة السطحية قادرة على خوض تجارب فلسفية كبرى؟ هل ثمة علاقة بين الفلسفة والعمران؟ بين الفلسفة والطفولة؟ بين الفلسفة والسلطة؟ هل الفلسفة تحتمل الكذب بمعناه الوجودي؟ هل الفلسفة تصلح قاعدة للعجرفة والخواء النّفسي؟ هل يمكننا تصريف عقدنا النفسية عبر خطاب الفلسفة؟ هل الفلسفة هي أمّ العلوم أم ناتورا تحمل عليه كلّ تفاهاتنا وأكاذيبنا؟ هل يمكن أن تكون فيلسوف دون ان تبدع مفهوما واحدا في حقل الفلسفة؟ هل الوجود لعبة ألفاظ وطقّة حنك؟ لماذا لا زالت الفلسفة في دنيا العرب سطحية وتفرض نفسها بالزعيق والمزايدات والهروب؟ لماذا نصبح فلاسفة حينما نخسر في السياسة؟ لماذا نبني مجدا فلسفيا على طرائق السياسيين ثم نلعنهم؟ على طريقة أهل الدين ثم نلعتهم؟ لماذا نخلط بين تجارب الوجود وبين الوعظ والسائد من لغط الكليشهات القامعة للجرأة من أجل المعرفة والوجود؟ لماذا نختبئ من الغضب الفلسفي بألوان من المخاتلات الأخلاقوية الخالية من المضمون..هل يمكن أن نكون فلاسفة حقيقيين وليس سيئين بتعبير نيتشه ونحن لا نغضب؟ ما هي الثغرة التي يحفرها الفيلسوف في مسار تاريخ الفلسفة الذي تحوّل عند المتفلسف العربي إلى فلسفة؟ما هو مصير الفلسفة في هذا التقاطع الجيو - ثقافي المشرقي والمغربي.. لماذا نخلط بين الإبداع الفلسفي وبين اللعب بألفاظ فلسفية؟ لماذا لا نهتم بالمفاهيم صناعة وتطويرا لأنّ الفلسفة حبكة نسقية وليست شعرا؟ ما هو القدر المناسب لتحرر الكائن لكي يكون فيلسوفا وليس هاوي مقولاتها؟ هل تحتمل الفلسفة وجود التقليد العميق؟ أم هل إن مجرد العزف على تمثّلات تجارب أخرى في الوجود تتيح لنا أن نخدع الذّات ونخدع الآخر بالانعتاق من التقليد والشروط الباطنية المعيقة للتحرر النموذجي العميق؟ كم لا زال يسكن في أعماقك من منسوب التقليد؟ كم أنت مخلص حقيقة لفكرك وليس لمشاعرك التي تجرّ حطاما من القلق غير الفلسفي؟ ما المخرج الذي نضعه بين يدي القلقين أو من يشاركوننا القلق؟
تساؤلات كثيرة، وأكثر يتعيّن أن نستفيد منها ونحن نتهجّى الفلسفة تقليدا، لأنّ التجارب الفلسفية حكاية كبيرة جدّا يجب أن نعاقرها من بداياتها..إنها ليست حكاية موضات بل هي حكاية قلق حقيقي وغرق في بحر بلا شطآن..إنّها تورث صاحبها الغضب، وقوة التحمّل..تحمل الأفكار حتى لا تكون مطية لردود أفعالنا..وطلاء نصبغ به حمرنا..إنها ضمير ومسؤولية وغضب لا يلتقي مع فنون الحساب..هي تحرر عميق من كلّ الحسابات غير حساب الحقيقة لا شريك لها..الفيلسوف مثل أهل الرياضيات لا يعرف الحساب..لأنه يتسامى على الأرتمتيقا..لذا ليس ثمة حدّا للفيلسوف إلاّ الجنون..والتجربة هنا تتعلق بالجنون..اللحظة التي يشعر فيها الفيلسوف بالانعتاق عن النظم والنظيمات..عن كل حساب..عن كلّ مشاعر سطحية أو ممسرحة..عن كلّ تفاهة وتكرار..ليس للفيلسوف إلاّ تجربة واحدة بها يرقى إلى ما فوق الفيلسوف الكادح بتعبير نيتشه..تجربة الجنون..إلى ذلك الحين لا زالت تجارب المتفلسف العربي أقلّ جرأة من تجربة الشاعر والفنان..لا زالت هي الأخ الرّضاعي للوعظ والإرشاد..ولكن بطرق يغلب عليها العدوان والعجرفة السطحية...إنّنا لم نسبح في نهر الفلسفة بل اكتفينا بالردّاد..ولكن في السياق الجيو - ثقافي كل شيء يتحوّل إلى هيكل: الدين والسياسة والفلسفة..إنّنا أمام تشكل حالة من الكهانة والقبلية والمافيوزية والشعوذة الفلسفية في المنطقة العربية..وهذا أمر طبيعي إذا ما استحضرنا الحالة العامة التي تغلب على مجالنا اليوم..كلّ شيء غدا ملتبسا حتى تسطع شمس العرب مرّة أخرى..في البحث عن الرجولة الفلسفية كما كان البحث عن الرجولة السياسية.. |