• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : إنسان الحداثة .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

إنسان الحداثة

متى كان الإنسان غير قلق؟ ودائما يهرب الكائن في الذّاكرة ليحرف تاريخ القلق وكأنّ الماضي بالفعل هو عصرنا الذّهبي..ومع ذلك لا أحد أدرك السؤال الجوهري: عن أي تاريخ نتحدّث؟ هل نحن إزاء كرونولوجيا كائن يتحرك في التّاريخ الجامد أم أنّ الأمر يتعلّق بتاريخه الأنطولوجي؟ إنّه من الصعب التمييز بين التّاريخين لأنّ التّاريخ الأنطولوجي يتحرك بين الأزمنة وهو لا يتطور أفقيا بل عموديّا..يصعب رصد حركة التاريخ العمودي بعدسة المؤرّخ التّاريخاني..ذلك لأنّ منطق حركته مختلف تماما كما أنّ عملية التوثيق هنا تختلف..
في التاريخ الأفقي نقف على أطوار في الإنسانية..من الإنسان الحجري حتى الإنسان العولمي..أطوار توهمنا بأنّنا بالفعل قطعنا أشواطا كبيرة وانتقلنا انتقالا صعبا..لكن على الرغم من كلّ هذا فإننا لا زلنا نسلك على الدورة نفسها من كائن لا زال لا يرى طرقا أخرى للتطوّر التّاريخي..كانت تجربة هيدغر من العلامات الفارقة التي بإمكانها أن تسهّل رؤية هذا التاريخ العمودي..دعك مما هو من آثار الإلتباس اللاّ-أنطلوجي الذي يحفر ممرات أحيانا في قلب الفلسفة ما بعد الحداثية ويسمها ببعض الآفات التي يجعلها قابلة للاستعمال من قبل الشيء ونقيضه..انطلق هيدغر من تأمّلاته التاريخانية قبل أن يصطدم بالسؤال الأنطولوجي الذي رمى به ناحية الدّازاين..لقد كفّ الكائن أن يكون محض كرونولوجيا فارغة..بل لقد كفّ أن يكون تجربة في زمن موضوعي خارجاني..لقد أصبح الزمان زمان الكائن..لكل خبرته الزمانية..لكل وجود زمانه..كانت بالفعل ثورة عارمة بعد انحطاط فلسفي كبير حول الزمان..هذا زمان غير كارتيزياني(ديكارتي) ولا نيوتوني ولا حتّى هيغلي..اكتشاف جرماني له جذور في فلسفات الشّرق..نستطيع حينما نكسر جبروت التاريخ الموضوعي الذي يحشرنا في تجربة القطيع أن نعيش تواريخ متعددة داخل تاريخ واحد..
نتساءل بعد قرون من انبثاق عصر الأنوار عن مفهوم الإنسان..لأننا من صلب هذا المفهوم سندرك جذور ومآلات هذا القلق..ربما الحداثة قدّمت نموذجا واحدا يتكرّر في دورة القلق نفسه، لكن على هامش الحداثة انبثقت مشاريع إنسان مختلف، لكنه إنسان لم يتحقّق لأسباب حداثية طاردة لممكناتها..البعد الطوباوي للحداثة نفسها، باعتبار أنّ الحداثة في منطلقها هي فكرة طوباوية..وما تحقق منها هو بعض من إمكاناتها..هناك فكرة أثيرة لنيتشه الذي استطاع أن يختزل صور الإنسان التي أنتجها العصر الحديث في ثلاث صور.. كل صورة تحمل خصائصها وشروطها وتحدّياتها..الإنسان الأوّل هو إنسان روسو..والثاني هو إنسان غوته والثالث هو إنسان شوبنهور..تمتلك الصورة الأولى (إنسان روسو) قوة ذات التأثير الواسع..تمتلك الصورة الثانية(إنسان غوته) قوة تأملية محدودة في أقلية..تمتلك الصورة الثالثة(إنسان شبنهور) قوة تأملية فائقة لمن يتحمل ذلك دون ان يؤذي نفسه..يلعب إنسان غوته دور المسكّن لإنسان روسو ومهدئ لاضطراباته التي يقول عنها نيتشه بأنّ إنسان روسو هو ضحيتها..لا يعلق نيتشه أملا على الإنسانين..فمسارهما ينحو نحو الضّعف والاضمحلال..وحده إنسان شوبنهور يستطيع أن يتحمّل الحقيقة فلا يعتبر قولها نوعا من الشّر في عالم يعتبر الناس أن الحفاظ على أنصاف حقائقهم وأفكارهم الثابة هو واجب إنساني كما يقول نيتشه..لكن هدوء إنسان شوبنهور يخفي إحساسا ناريا نحو المعرفة..البحث عن الحقيقة كلّها لن تترك لإنسان شوبهور صديقا..ولا حتى معنى للسعادة..يورد نيتشه مقطعا لشوبنهور يقول فيه بأنّ السعادة مستحيلة وكل ما يمكن ان يناله الانسان هو مسار حياة طويلة..هذا ما أتحفنا به العصر من صور الإنسان..ويبدو أن سورة القلق ملازمة لكل أنماطه.. لا شيء يستجد سوى الشجاعة من أجل المعرفة..والصبر هلى امتلاك الحقيقة كاملة من دون خوف ولا وجل..وهذا الإنسان الأخير ناذر ولا يمثّل القطيع البشري..بل فقط إنسان روسو يملك طاقة تثوير البشر على أنصاف حقائق يحيون بها..
الاستنتاج هنا واضح، فليس كل كائن يملك أن يمحق أنانيته تجاه الحقيقة..هذه مهمّة تتجاوز مجرّد التثوير السطحي على هامش الحقيقة كلّها..الكائن الذي يتحمّل الحقيقة كلّها هو كائن طاعن في الخصوصية..وهو يغامر بسعادته بالمعنى التاريخي لفكرة السعادة..ولكن ما يمكن أن يحلّ معضلة شوبنهور ونيتشه أن ننفتح على التاريخ العمودي..وحده يدحض حتمية غياب السعادة متى ما تمّ القبض على الحقيقة كلّها..ذلك لأنّ سعادة الظفر بالحقيقة تتجلّى في صفحة التاريخ العمودي الذي وحده وفي لحظة تجلّيه يحدث المنعطف في المجال التاريخي الأفقي نفسه.. ما يبدو غير سعادة في التاريخ الأفقي هو سعادة في التاريخ الخاص..وهذا يعني لا بدّ من تضحية..لا يمكن أن تحقق سعادتك في التّاريخ ولكن يمكنك تحقيقها بشرط الدّازاين..أي أنّ سعادة كائن المعرفة تكمن بين زمنين..في برزخ فاصل بين التاريخ والعقل..الإنسان اليوم لا زال إذن موصولا بإنسان روسو كما وصفه نيتشه..إنسان يثور لأنصاف الحقائق..يخلق الفوضى ليرضي أنانيته وسطحيته..ولكنه سرعان ما تخمد نار جذوته..سرعان ما يتحوّل إلى قطيع من العبيد..حتى ثوراته تشبه ثورات العبيد..كائن خفيف حقّا لا تحتمل خفته كما في وصف ميلان كونديرا..حتّى نظرته للقانون هي نظرة كائن خفيف واثق بالتوافقات الكاذبة..يرضى كائن روسو ـ مسايرة لوصف نيتشه ـ بالحدّ الأدنى من الحلول والحقائق والفلسفات والشعر، وكل ما يلزم لاستمرار الفوضى واللاّمعنى.. إنسان أخفق في صنع تاريخه الأفقي ومارس النسيان في كلّ أشكال الإمكان التّاريخي..إنسان روسو هو رهينة لتاريخ جامد من المفاهيم والمعاني..يعيد إنتاج الضحالة التي تنتهي بانتحار الكائن التّاريخي على مذبح التّفاهة: العنوان الذي يجب أن يسم عصرنا الحائر أو عصر إنسان روسو لو أردنا التعبير على طريقة نيتشه..



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=81742
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 08 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14