صار من الصعب أن نقول " أيامكم سعيدة" بكل ما تعنيه الكلمة وتدفع إليه من المشاعر والتطلعات , وما يرافقها من الفرح والبهجة ورقيق الأمنيات. من الصعب حقا على الإنسان أن ينطق كلمات التهاني بمناسبة العيد , وفي أعماقه سؤال صريح " هل عندنا عيد؟".
قد يرسل الأخوة والأحبة والأصدقاء بطاقات تهاني , لكنها مع كل عام تنكمش ويقل عددها , ومعاني كلماتها تتغير وتكتسب مفردات لا تعبّر عن السعادة , وإن أرادتها فأنها تحسب القول مخادعة للذات والواقع المرير الذي نعيشه جميعا وبلا إستثناء.
فالعراقي ما عاد قادرا على أن يقول " أيامكم سعيدة" بملئ قلبه وببهجة وسرور , لأن الأيام سرقت منه الفرح الحقيقي , ونهبت بهجته وسروره ووشحته بأسباب الأتراح وقضت على دواعي الأفراح , فحتى الذي ينهب ويسلب ويغتنم الثروات لا يمكنه أن يشعر بسعادة سرقاته وما يغتصبه من الأموال , والناس من حوله في أشد حالات المقاساة والآلام.
فالعيد الحقيقي قد غاب في دياجير الويلات والتداعيات وتفاعلات الخسران والبهتان.
العيد الذي كنا نتغرغر بضحكاته ونفرح بأيامه , ونستبشر به ونبتهج ونعبر عن أعذب مشاعرنا وأحاسيسنا , ونستحضر أجمل كلماتنا وقدراتنا الطيبة لكي نمنح بعضنا السرور والسعادة والأمل , ذلك العيد صار نسيا منسيا.
والعيد الذي يتكرر عندنا يمضي معظم أبناء البلاد أيامهم الأولى في مجالسة المقابر وذرف دموع الأحزان وإرتداء السواد, على الذين سرقتهم أباليس الغياب وقتلتهم عفاريت الكراسي والضلال والإمتهان.
ولا يمكن إستيعاب أن يكون عندنا عيد وأخواننا المفجوعون بتفجير الكرادة الآثم اللئيم , لا يزالون يستنشقون رائحة الموت من الأماكن التي كانوا فيها يبتهجون ويتسوقون إستعدادا لعيدٍ حلموا به سعيدا وآمنا.
إنفجار إغتال العيد والأحلام والأمنيات , والدنيا تتجاهل , وتحسب الذي حصل أمرا متكررا وعاديا , وهو يحصل وفقا لآليات "نارهم تأكل حطبهم" التي آتت أوكلها وحصد الأعداء ثمارها , وهم الذين عندهم عيد ما قبله ولا بعده عيد.
فواقع السلوك المجتمعي أنه نسيج واحد , مهما توهم وانحرف المفترسون ,الذين يعرفون أن تمزيق هذا النسيج الحضاري بحاجة إلى أعنف الهجمات والدمارات لكي يتم صناعة أجيال تتوافق وتطلعاتهم الأثيمة , ومهما توهّموا وأمعنوا بالإجرام ومحاولات التفريق والتمزيق , فالمجتمع العراقي يؤكد بأن الفرح حالة واحدة جامعة لكل العراقيين , وإن أصاب بعضه الحزن تداعى له جميع العراقيين بالرعاية والرحمة والتضامن الإنساني الحضاري النبيل.
فالعراقيون وبلا إستثناء يتضامنون مع عوائل الضحايا ويتآزرون , ويعلنون الحداد على أرواح الأبرياء الذين قتلوا بإرادة أباليس السوء والبغضاء وأمّارات الشرور والكراهية والعدوان على جوهر الحياة.
نعم إغتالوا العيد , وساهم في إغتياله أعداء المحبة والأخوة والألفة والرحمة , والتفاعل الإنساني الطيب المتسامح الودود , الذي يرفع رايات الأحسن والأفضل والأصلح لأبناء العراق , هؤلاء الأعداء تعددت تسمياتهم وآثامهم , وهم يدّعون الدين وما هم بأفعالهم بمعبرين عن أبسط معاني الدين , وإنما ما يقومون به يؤكد بأنهم من ألد أعداء الدين , وأشرس الفاتكين به والملوثين لسمعته وقيمه ومعايره الرحيمة النبيلة السامية.
فقد إنتشر التعبير عن الجهل بالدين , وما ظهر فعل الدين الحقيقي , وإنما تحوّل الدين إلى مطية لتحقيق الغايات والتطلعات الدونية للذين يرون أن دينهم هواهم لا غير , لكنهم يريدون أن يخدعوا الناس والسماء , وما يخدعون إلا أنفسهم وهم في ضلالهم وأفكهم يعمهون.
هؤلاء إغتالوا العيد , وذبحوه على صخرة أميتهم وجهلهم بالله ورسوله وكتابه وباتباعهم لكل مدّعٍ أثيم.
إغتالوا العيد ولن يتحقق الفرح في القلوب , وأخوتنا يئنون من الحزن ولازالت جراحهم تنزف وأروحهم تذرف وأحبتهم قد سكنوا التراب بلا ذنب , إلا إنها جرائم أباليس الشرور على تراب البلد الطهور , بلد الحضارات والتفاعلات الإنسانية الرحيمة الصادقة الخالية من القصور.
ولعنة الله على الذين سرقوا أعيادنا وقتلوا أفراحنا وفتكوا ببهجتنا ومسرّاتنا , وأجهزوا على أمانينا وتطلعاتنا وأحرقوا أحلامنا وصلبوا أيامنا .
فقد كان عندنا عيد سعيد , لكن حوت المآسي والويلات إبتلعه ولازال لا يمنحنا فرصة أن يكون عندنا عيد.
وكان عندنا عيد, لكن تماسيح الكراسي إفترسته , وذئاب الأحزاب المتحزبة والفئات المتطرفة مزقته وأغرقته بالدماء , ولازالت تكشر عن أنيابها للفتك بأي بهجة وفرح وسعادة وطنية صادقة.
تلك حقيقة قاسية جارحة مؤلمة لا بد لنا أن نقف أمامها بقوة وشجاعة وصبر وإيمان وأمل, بتأكيد عراقيتنا وإعلاء شأنها والتحرر من عوامل تشويهها وتفتيتها , وأن نرفع لواءها ونجعلها راية خفاقة فوق جميع الرايات , فذلك هو عيدنا الحقيقي السعيد.
فبالعراق وبعراقيتنا المقدسة نكون ونبقى ونحيا , وبغيرهما ستحصد أسوأ مما حصدنا!!
فهل سيكون عندنا عيد؟!!
|