كلاهما في خلل ,الثقافة راكدة بفعل ما يمر به البلد من أزمات سياسية بالدرجة الأساس قبل أن تكون أمنية ,والسرد العراقي الذي اختلطت فيه الخطوط وتشابكت في الرؤى حد التقاطع بفعل انغلاق السارد على السارد وإحجام القاص عن توجيه القاص أو الأخذ بيده ,واجتهاد القادم الجديد وتمرده على المارد القديم في القص,وعدم تأصيل المدارس السردية الجديدة في القصة القصيرة والقصيرة جدا وحتى القصص القصيرة جدا جدا ,روتين قاتل لملتقيات ومهرجانات دون تجديد أو بث دماء جديدة للقص أو حتى احتضانها ومحاولة احتكاكها مع الرائد لإنضاج تجربة الشباب .
يسأل احدهم ... أين المثقف من ذاكرة الناس ؟ – والقاص طبعا جزء من المثقف -,هو سؤال في غاية الأهمية ذلك لان القاص والمثقف تحديدا في العراق يعيش في عزلة تامة هو من اجتراحها ولم تكن رغما عنه بالتأكيد ,إن انغلاق المثقف وانزواء الثقافة وبرجوازيتها وعدم انفتاح المؤسسات الثقافية والمثقف على القاعدة الشعبية للناس وبقي كلاهما رهن النخبوية والتعالي ,فحولا الثقافة او السرد والقص إلى مرموزات تهرب بعيدا عن ثقافة البسطاء أو لا تريد أن تشاطره همه مهرولة خلف تقنيات السرد العالمية الأكثر حداثوية وتغريب ,فغاب الموجه الثقافي من المجتمع وظهر المخرب الشعبي فيها ,ولان ذاكرة الناس شفهيا فلا تحفظ إلا ما تألفه الأذن وتعشقه العين وتحب الشفاه ممارسته بكل سهولة وانسيابية.
رب سائل يسأل....وكيف يكون للقص أو السرد أو الثقافة بصورة عامة مصدر توجيه لثقافة الناس نخبويون منهم أو بسطاء الفهم؟,وجواب السؤال يكون في غاية الأهمية والبساطة معا وذلك عبر إعادة النظر بالثقافة العراقية وهيكلتها مجددا وإعادة بناءها وفق صيغ ثقافية أسهل فهما وبساطة وأكثر مضامين وأهداف وتقنية معا ,شريطة أن لا تغادر ثقافة الناس أو تسبح ضد تيار فهمهم ,وهي ليست دعوة للتسطيح والكتابة بلغة الرعاع كما يطلق عليهم البعض بل هي دعوة لإعادة بناء العقلية العراقية من اقرب الأشياء له وأكثرها تأثيرا به ألا وهي الثقافة والأدب,لإعادة تشكيلها مجددا وفق صياغات أكثر وطنية واعتدالا وتأصيل حضاري وأخلاقي,ننهض بها من الصفر طالما أن سنوات الجمر التي مرت على العراق خلال حكم البعث وما تلاه بعد 2003 أحالت العقلية العراقية إلى خواء والى عقلية مادية تؤمن بالربح والخسارة ولا تؤمن بالتضحية ,وتعيش فلسفة الإقصاء والحرب بكل تفاصيلها وتتظاهر بلبوس الديمقراطية كوجاهة أو للتظاهر ,فان من واجب المثقف أو الأديب أو القاص النزول لدرك تلك العقلية ومحاولة استنطاق جذور القيم الفاضلة فيها ليرتقي فيها ومعها شيئا فشيئا نحو الشخصية الحلم تلك الشخصية العراقية أبان الثلاثينيات أو السبعينيات من القرن المنصرم ,كل بلدان العالم تبدأ قروية ومن ثم تتحول إلى حضرية بتقادم السنين إلا في العراق فمن يشاهد أو يقرأ الحياة خلال العشرينيات والثلاثينيات وحتى السبعينيات سيكتشف في أي مدن حضرية كنا نعيش ومن يتصفح أو يتجول في مدن العراق الكبرى الآن يرى ويكتشف في أي قرى نحن نعيش ليس على مستوى العمران بل على مستوى القيم والأخلاق والتعامل وفلسفة العيش والبقاء .
بيت السرد العربي ومقره النجف الاشرف عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2012 والقائمون عليه عرفوا تماما هذه التفكيكات المجتمعية ودرسوا بشكل كبير مفهوم عزلة المثقف وغيابه عن ذاكرة الناس ,وبحثوا طويلا في غياب القص والسرد عن شفاه الناس ,فكان الرأي هو ذلك البيت السردي العربي لإعادة هيكلة المنظومة القصية من جديد وبناء أسس ومفاهيم سردية وقصية جديدة تنسجم مع العصر ,تتلاءم مع الناس ,لا تبتعد عن التقنية العالية في القص والسرد ولا تتغرب أكثر في الوقت ذاته ,قصص وسرد تتمرد على الطقوس السائدة للقص ,تقرأ وقوفا إن لزم الأمر,قصص واضحة المعالم والمدلولات كل كلمة ومعنى يرى البسطاء انه واضح وسهل ويرى النخبة بان خلفه أكثر من سؤال وتأويل ,قص تحفظه ذاكرة الناس وتردده شفاههم ,وتفكك النخبة تشفيراته أكثر من مرة ,انه القص ذو الوجهين ,سهل .... وممتنع .
هكذا أراد السرديون في النجف أن يكون القص من الآن وصاعدا ,فكان الملتقى ,ملتقى السرد العربي في النجف الاشرف عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2012 وعلى مدى يومين متتاليين , وبحضور عدد كبير من القصاصين والنقاد من جميع محافظات العراق ,وفي جلسات صباحية ومسائية ,قدم فيها خلطة من مدارس القص والسرد لقصاصين وسرديين من أجيال مختلفة ,يصاحبها جلسات نقدية وان لم تكن بالفائدة المرجوة لأنها كانت أوراق عن مواضيع خاص أطار الملتقى ومن قرأ فيه وهذا ما لابد انم يتم تلافيه في الملتقى الثاني للقصة الأول في العام المقبل بان تكون الجلسات النقدية حصرا لما يتم قراءته فقط للفائدة وتأصيل هدف أو أهداف الملتقى بالتأكيد ,إلا أن مع ذلك كانت أوراق نقدية مهمة لنقاد مهمين اثروا الساحة السردية بالنقد العلمي الدقيق ,ولم ينسى القائمون على الملتقى أن للسرد وجوه أخرى وأكثرها تأصيلا الآن هو السرد البصري فافتتحوا معرضين مهمين لفنانين كبيرين هما الفنان الكبير محمد لقمان خواجة والفنانة الرائعة غرام الربيعي ,فكان السرد البصري بموازاة السرد الكتابي,والاهم من كل ذلك وما ميز الملتقى عن باقي المهرجانات والملتقيات في العراق هو انه حقق موازنة عادلة مابين دعوة الرواد ودعوة الشباب الجدد في ساحة القص ,فسمع الشباب بوح الكبار وتعلموا منهم ,وكانت فرصة للرواد أن يسمعوا بوح الشباب واجتراحاتهم السردية الحديثة ليقدموا توجيه هنا وتصحيح هناك وهذه أهم غاية وهدف تعقد من اجله كبرى الملتقيات في العالم والتي طالما تغيب عن ملتقيات ومهرجانات العراق كافة .
حقق الملتقى ما لم يحققه العديد من الملتقيات والمهرجانات حقق لقاء الأحبة من رواد وشباب من محافظات العراق كافة فمد جسور التعارف والمودة بينهم ,وحقق الفائدة في السماع والتوجيه والنصح بين الجميع ,وأطلق رصاصة الرحمة على الراكد الثقافي والروتين الثقافي المعتاد في الملتقيات وقدم برامج وجلسات وجولات جديدة ومهمة وحميمية ,ذلك لأنها انطلقت من قلوب تعتمرها المحبة ,ختم بجلسة رائعة مع محافظ النجف الاشرف الذي كان مثقفا بامتياز في أطروحاته وخططه ودعمه وبرامجه المستقبلية .
شكرا للقاص المبدع زمن عبد زيد الكرعاوي رئيس الهيئة الإدارية لبيت السرد العربي ومن معه من أعضاء الهيئة الإدارية كل من ,المبدع احمد الموسوي والمبدعة الدكتورة إيمان السلطاني والمبدع الناقد عبد الرضا جبارة والمبدعة القصة رؤى زهير شكر والمبدع المترجم كاظم ناصر والمبدع القاص علي العبودي والإعلامي المبدع حازم الكعبي والمبدعة الإعلامية ابتهال سميسم , وللهيئة الاستشارية للبيت كل من الدكتور عبد الهادي الفرطوسي والدكتور صباح المرزوك والدكتور رزاق الحكيم والدكتور علي كاطع خلف والناقد علوان السلمان والدكتور عبد المجيد فرح الله , لأنهم قدموا ما لم تقدمه واجهات رسمية في العراق من حسن تنظيم وتحضير ومحبة وإبداع ...
طوبى لبيت السرد العربي وهو يعلن انطلاق مسيرة مدرسة سردية جديدة تحرك الراكد في الثقافة وتعيد النظر بالسرد العراقي .