ليس كل ما يروى ويعلم من أحوال الماضي هو علم بالتاريخ..قد يكون ذلك شيء من التاريخ ولكن ليس علما بالماضي..مقتضى العلم إذن أن ينتج معرفة أخرى ترتبط بالمستقبل..علم التاريخ ليس علما بالماضي وحده بل هو علم بالماضي الموصول بالمستقبل..أي علم بموقع الإنسان من حركة التاريخ..وهكذا يظهر أنّنا سنتخطّى ذلك التعريف التقليدي للتاريخ والذي أنتج لنا مجاميع خبرية لا تتواصل مع باقي فصول الأزمنة الأخرى كالحاضر والمستقبل..لن يكون التاريخ بعد اليوم تسلية تصرفنا عن مهامنا في الحاضر أو أن تعوّض فشلنا في استشراف ملامح المستقبل..حينما اقتحمت الفلسفة إشكالية الزمان والعلوم الاجتماعية عموما استطاعت أن تقحم مزيدا من التساؤلات على حقيقة التاريخ ووظيفته..ووظيفة التاريخ لا تتحقق مع التباس حقيقته.. بدا واضحا أيضا أنّ نفهوم المؤرخ ومفهوم التاريخ له صلة بما تنتجه الحقيقة التاريخية في الحاضر وما نأمله منهما في المستقبل..عين على الماضي لكن العقل متّجه نحو المستقبل..والمستقبل هو الآخر لا يخلو من التباس، وهو ليس مجرد مرمى لعجزنا عن حلّ مشكلة الماضي..ثمة مايسترو الإرادة التي تتجسّد في الحاضر..إرادة المعرفة..والتي لا تعني شيئا دون أن تتلبّس يإرادة النقد..نقد التاريخ ونقد المستقبل كما فعلنا ونفعل..الرغبة ليست هي المعرفة..الرغبة في أن أبني سلطة من خلال الماضي أو المستقبل لا تكفي..النقد يهزم رغباتنا..والتحقيق: تحقيق الماضي والمستقبل مهمّتان لا يضارعهما شيء في لعبة المعرفة..هي لعبة أيضا لأنها ليست مضمونة..ثمة شيء لنسمّيه الهدر المعرفي..في كل جيل وحقبة ثمة مفاهيم تنتفخ وتتورّم حدّ المرض وتفقد مضمونها الحي ونجاعتها وتبقى مجرد مفاهيم تداولية..هنا لا بدّ أن نقول للتداوليين بأنّ هذا ليس معيارا لتصحيح العقل..لا أعتقد أن التداوليين جميعا يقولون بذلك..على الأقل الأمريكيون لا يعتبرون الحقيقة مطلقة ويبحرون في أفعال الكلام..غير أنّ بعض المولعين من العرب بالتداوليات حوّلوها إلى أداة لتكريس فكرة الحقيقة الميتافيزيقية..يا للغرابة..إنّ التداولي لا يمكن أن يكون معيارا سوى لسلطة النسبي..من التداولي ما هو فاقد للمضمون..خاضع للدعاية..ترى ما معنى الدعاية؟ إنها تقنية تواصلية تستعمل الخداع والعلم بهشاشة المتلقي لتكريس قضية خادعة كقضية تداولية..لعبة المعرفة هي لعبة ألفاظ، لعبة صبّ المفاهيم بصورة فاقدة للمضمون والسياق..حالة أفقدت الفلسفة نفسها مهارتها وجدواها في عالم يستخفّ بالمعرفة ولا يقبل إلاّ بما ظهر منها..لم يعد الفارق بين النخب والعوام إلاّ امتلاك معجم مفاهيمي للاستعمال..والاستعمال هنا لم يعد حتى في مستواه الأيديولوجي..فعصر الأيديولوجيا على ما له وما عليه لم يعد من شأن عالمنا..استعمال ضحل وغير منتج..ستنعكس هذه الضحالة على العلم بالتاريخ وبالمستقبل وسينتفخ الحاضر بمفاهيم تداولية تتكرّر بلا وعي ولا خطة عملية ولا رغبة حقيقية..المعرفة لها معيار واحد، حينما تنقلنا إلى صميم الوجود..كل معرفة لا تنعكس على الوجود هي معرفة ضحلة، مزيفة، سطحية...الجميع يقول: لنعيد قراءة التاريخ..لكن الكل ضحية لصورة ما من صوره..وكثيرا ما يكون المطلوب ليس تغيير أحداث التاريخ بقدر ما يكون المطلوب تكوين الرؤية العامة للتاريخ من خلال ما يجود به الإخبار..قدر التاريخ هو الأخبار ولكننا في حاضرنا نستسلم لزيف الأخبار التي نحن طرف في تزييفها..اليوم تكتب الأمم وتشارك وتتواطأ في تحريف تاريخها..يمكن للحاضر أن يصبح سلطة تفسيرية حقيقية لما جرى بالأمس..نستطيع أن ندركك كيف يتم تحريف التاريخ واستعمال مغالطات التكرار والتضخيم لبعض أحداثه وحجب الكثير من الأحداث الأخرى..هذه ليست بالضرورة دعوة للإعلاء من القيمة المعرفية للحاضر على حساب الماضي والمستقبل، ولكن علينا أن نجعل من الحاضر أيضا معيارا لفهم أبعاد الزمن الأخرى.." تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون"..ربما هذه الآية تلخص المشكلة..فهي ترفع مسؤولية التاريخ عن الأجيال التي تقع ضحية لتحريفه ولكنها تحمل مسؤولية كتابة تاريخ الحاضر..فهي تنطبق من جهة المفهوم على المؤرخ الحاضر الذي له ما كسب ووسيسأل عما فعل..تحريف التاريخ هو تحريف للمعرفة..وتحريف المعرفة هو تزييف للوجود..وإذا زيّف الوجود دخلنا دورة الضحالة..وتلك هي حالة الكائن المنفصل عن الكوني الذي وحده يحصّنه من لعبة التجزّيئ القاتل وشقاء الوعي المزيّف...
|