الرأسمالية متوحّشة حتى في اللحظات التي تجنح فيها إلى ممارسة القوة الناعمة..إنها نظام سوسيوـاقتصادي يناهض الأحاسيس النبيلة التي تهفوا إلى العدالة الاجتماعية وتقاسم الثروة بين الناس على قاعدة الإنصاف ومناهضة الفقر..لا يمكن أن تتعايش الرأسمالية بوصفها متوحّشة دائما إلاّ في مركز يتعيّن أن يكون محاطا بهامش من الفقر وما تحت خط الفقر..لأن هؤلاء الفقراء هم الجيش الاحتياطي الذين تجد فيهم الرأسمالية عبيدا لجلب الثروة والتلويح بهم ضدّ أولئك الذين تسلبهم الرأسمالية حقوقهم من طبقة العمّال..هذا هو الدرس الذي اهتدى إليه ماركس وهو كبير المناهضين للرأسمالية والكاشف عن نوازعها وهشاشتها أيضا..وهذه حقيقة باتت واضحة وتشكل جزء من الثقافة المؤسسة لمناهضة الرأسمالية المتوحشة في سائر الاتجاهات والتيارات..هي إذن أطياف ماركس بتعبير جاك ديريدا..فالتاريخ يحتفظ بالأصلح من الأفكار وإن طوى كشحا عن أخرى..ستجد الرأسمالية المتوحشة نفسها أمام مضادات أيديولوجية قد تكون أكثر ليونة ومرونة ولكنها تستند إلى ذات القناعة..نتساءل اليوم عن دور الرأسمالية المتوحشة في ركوب وتأطير ما سمي بالربيع العربي..فهذه الجنبة ظلت خفية وقلّما تمّ الوقوف عندها بتفصيل..ففي المبدأ العام كانت فكرة الفوضى الخلاّقة جزء من ثقافة الرأسمالية المتوحشة وخططها لفتح البلدان العصية..فالرأسمالية المتوحشة تنتعش في أزمنة الحروب وتتمدّد مع سقوط الكيانات..شغلت قضية النّفط الرأسمالية المتوحشة التي سعت دائما لاستنزاف ما تبقى من احتياطي في الأرض العربية..ولم تكتف بتمتين علاقاتها وتحالفها مع الرجعية العربية بل في فترة ما بدأ التفكير في الهيمنة المباشرة والتدخل لإحداث مزيد من التقسيم والظفر بدويلات نفطية أقل ديمغرافيا وأكثر إنتاجا للنفط والغاز..في ليبيا حيث لم تكن الرأسمالية المتوحّشة راضية على غموض السياسة الطاقية الليبية نظرا للسياسات الخاصة التي تبنّاها العقيد القذّافي، وربما نظرا لانفتاح هذا الأخير على بعض البؤر التي تعمل على هامش الرأسمالية كالمافيا الإيطالية ورموز الاقتصاد غير المهيكل وهو ما كان شكل اختراقا للرأسمالية المتوحشة والتفلت من هيمنتها وتحكمها وممارسة الحصار ضدّ ليبيا..في العراق أو في سوريا أو في كلّ مكان كان النفط والأنابيب حاضرة في تفسير أجندات الحرب والغزو..موضوع الطاقة كان ولا زال هو الموضوع الرئيسي بالنسبة للرأسمالية المتوحشة..في مصر كان لا بدّ من استهداف العصب الاقتصادي بضرب المؤسسة العسكرية التي تضع اليد على المراكز الحيوية للاقتصاد المصري وهو الذي ظلّ الضمانة الوحيدة لعدم تسخير الاقتصاد عبر التفويت المفترض لقطاعاته الحيوية ضمن سياسة الخصخصة، لأغراض سياسية ومزيد من الابتزاز الاقتصادي لمصر..الرأسمالية المتوحشة سعت مرارا للاقتراب من أهم مراكز البنوك والنظام المصرفي المصري وسائر القطاعات الحيوية التي تؤمّنها مؤسسة الجيش المصري التي كانت ولا زالت هي الضامن للاستقرار والأمن بكل معانيه بما فيه الغذائي..المشرفون على الربيع العربي هم من الحرس السياسي والأمني للرأسمالية المتوحشة..في أمريكا هناك جان ماكين صاحب العمليات القذرة للربيع العربي والذي كان له حضور في كل المناطق التي ستنبت فيها نابتة النصرة وداعش، كما هناك برنار هنري ليفي المثقف المزيّف الذي أظهر الكثير من الجنوح للرأسمالية المتوحشة المتصالحة مع اليمين المتطرف..أما إقليميا فقد تصالحت الرأسمالية المتوحشة مع الريع النفطي الذي هو مكمّل لسياساتها لوضع مسارات غريبة لربيع عربي أكثر إنجاز له أنّه أطاح بالدولة الوطنية وخرّب البنية التحتية والنسيج الاجتماعي العربي..اليوم سواء حيث نجح الربيع أو لم ينجح فإن الرأسمالية المتوحشة وضعت يدها على القطاعات الحيوية وقدمت لها تسهيلات على مستوى الاستثمار، حيث أصبح الربيع العربي ليس مجرد واقع أفقد الكثير من الساحات مكتسبات وطنية كثيرة بل بات فزّاعة تلوّح بها الرأسمالية المتوحشة ضدّ من لا زال يتمنّع على سياساتها..كان رئيس الحكومة المغربية المعجب بابن القيم أبرز تلامذة بن تيمية لا يفتأ يلوّح بفزاعة الربيع العربي كلّما شعر بالضغط والحرج..وبلغة غارقة في المجاز الساخر يقول: إن الربيع العربي لا زال يتجول هنا انتبهوا..كان ابن كيران وجماعته قد ركبوا موجة الربيع العربي واستغلوا الفرصة التاريخية للتمكين وشعروا بأنّهم قد ربّحوا البلد جميلا..كانوا لهذا السبب مدلّلين بعض الشيء..لكنهم في المقابل كانوا أكثر خضوعا لسياسات الرأسمالية المتوحّشة حينما ساهموا بوقاحة سياسية في ضرب السياسة الاجتماعية من خلال تحرشهم بصندوق المقاصّة وربط سعر البنزين بتقلبات الأسواق الدولية بطريقة يسكن الشيطان في تفاصيلها..تصالح أبناء ابن تيمية مع أبناء روتشايلد على تمكين الرأسمالية المتوحشة من الاقتصاد الوطني..ولولا تدافع المصالح الاقتصادية ومحدودية سلطانهم لكانوا باعوا البلد إلى الرأسمالية المتوحشة التي هي انتكاسة عن السياق الكينيزي الذي أبى مرارا أن يرهن الخطط الاقتصادية والاجتماعية للمدى البعيد كما يفعل أحفاد بن عبد الوهاب اليوم في حكومتنا، بل لا مجال لأن يدفع المجتمع فاتورة ضبط الاستقرار الاقتصادي عبر التسريح من العمل والتقليص من فرص الشغل..إن الفوضى الخلاّقة اليوم تجتاح سائر البلاد العربية سواء تلك التي تجاوبت مع الربيع العربي أو تلك التي قاومته..سيكون للرأسمالية المتوحشة حضور فاعل في مستقبل تلك الدّول..ففي بعض بلدان الخليج كان ثمن العسكرة دخول نظام (tva) في كافة المواد والخدمات، كمؤشّر على نهاية مرحلة ودخول أخرى في التدبير الاقتصادي..إنّ الربيع العربي في المحصلة النهائية استهدف الكيانات الوطنية والنسيج الاجتماعي والقطاعات الحيوية للانتاج والسياسة الاجتماعية والمفاهيم والعقل والأحاسيس....والثمرة هي مزيد من هيمنة الرأسمالية المتوحشة على البلاد والعباد.. الثمن الجوهري لربيع عربي كاذب فضّل أن يعقد صفقته التاريخية مع أولاد حارتنا...