كم هو مثير للمفارقة أن يتحدّث أطراف الصراع عن الموضوعية زمن الحرب، وهم من تمنّع عنها في زمن السّلم..كيف يستقيم الحديث عن الموضوعية بينما الحرب كلّها بنت الأيديولوجيا أو على الأقل تلك هي لغتها الأثيرة..يا للمفارقة..غير أنّ ذلك يوقفنا أمام ظاهرة لعلّها من أكثر الظواهر رسوخا في الإلتباس، أعني حينما تصبح الموضوعية لغة من لا موضوعية له..في نطاق المعرفة أصبح الحديث عن الموضوعية من أكثر المستحيلات التي جعلت المعرفة أكثر تواضعا في نسج حقائقها وأحكامها من السياسة نفسها..السياسة تبدو في نظر المعرفة ومعاييرها صناعة حمقاء لا تكلّف سوى موت الضمير..هكذا بات الحديث عن الموضوعية سمة بارزة في ربيع عربي لم يتصالح مع الواقع ولا مع العقل..غياب التسامح وغياب العمق وغياب الضمير العلمي والمهني أوصل العقل العربي إن صحّ هذا الوصف إلى حافة اللاّمعنى..رأى صناع الزّيف في الربيع العربي مرحلة محورية في تطور العرب..وعند الحساب سيتأكّد أنّ الربيع العربي هو حركة نواح أكثر منها حركة تغيير..بل إنّ القدر المتفق عليه من محصول هذا الربيع أنّ ثمة كيانات انهارت ولكن لم تظهر بعدها سوى نابتة سياسية تفتقد الكثير من الاستقلالية والوطنية لبناء كيانات وطنية في مهب ريح العلاقات الإقليمية والدولية المتخمة بالتآمر..الموضوعية هنا جزء من لعبة اقتضاها التفسير الذي يواكب الانجازات والإخفاقات التي حققها مشروع إعادة ترميم الجسد العربي على قاعدة التجزئة والفوضى واللاّمعنى..تبنّى خطاب الموضوعية جيل جديد من طلائع المفارقات السياسية والأيديولوجيا في منطقتنا العربية..كانت السيولة المالية التي يوفرها فائض القيمة النفطية كافيّا لتغيير المفاهيم ومسخ الفكر وتكريس الوقاحة في العقل والأحاسيس..والمال وحده كفيل بتغيير الولاءات والألوان وموت الضمير..كان هذا هو الأمر الأكثر موضوعية في كل هذه اللعبة التي لا زلنا نشهد ما تبقى منها في الوقت بدل الضائع اليوم، أي أنّ الريع النّفطي هو الخيمياء الوحيدة التي يتقنها حرّاس الرجعية لتحويل تراب الهزيمة إلى ذهب الانتصارات الوهمية..وتحويل الزيف إلى أمّ الحقائق..ماذا بإمكان المقاومة الفقيرة أن تفعل أمام ترف الرجعية..فالكروش كما في تصوير مظفر النواب هي من الأمام ومن الوراء..والتحرر هو جملة غير مفيدة في أجندة المحميين..والتآمر بات دينا للرجعية..بينما أمريكا نجحت في أن تؤسس لها في ضمير الرجعية دينا وثنيا..وهكذا باتت إلها يعبد من دون الله..والذي يظهر لي أنّ أمريكا ستظلّ مهيمنة على حلفائها لسنوات طويلة بفعل قانون القصور الذّاتي..وأيّا بلغ تدهورها الذي سيجعلها عاجزة عن السيطرة فإنّ عبادة أمريكا ستستمر كديانة حيوية في المجال الدولي والإقليمي تحديدا..هي أشبه بقصة النبي سليمان الذي استمر الإنس والجن في استحضار هيبته بعد سنين عددا من وفاته..ولولا الأرضة التي قضمت عصاه لما كفّ هؤلاء عن الفزع..اليوم روسيا هي اللاعب السياسي الأكثر حيوية..غير أن أمريكا تعمل على القوة الناعمة بوصفها بديلا عن القوة ليس من باب ذكاء وحكامة السياسات بل لأنّ أخاك في مثل هذه الحالة مكره لا بطل..وعليه، بدا واضحا أنّ الفريضة الغائبة في فكر العرب ومعاشهم ليس غياب الموضوعية بل هو الإحساس الخادع دوما بأنّهم آباء الموضوعية ودهاقنتها..وبالتأكيد، ليس ثمة حاجة للتذكير بالقطيع البشري الذي يعيش حالة الإدمان التاريخي على الزّيف.. ثمة تلوث بيئي خطير استهدف المفاهيم بكم هائل ونوعي من المغالطات، حيث السمة الأبرز لحروب اليوم هو نزع الجدوى والمعنى والصلابة من المفاهيم..ربما سيكون الوضع أخطر حينما يعبث بالمفاهيم من لم يكونوا طرفا في صناعتها وبالتالي لا تهمهم سمعة المفاهيم ولا قدسيتها المعرفية..في الربيع العربي تحوّل مجلس التعاون الخليجي إلى مصدّر ليس فقط للنفط بل لجيل جديد من الثقافة قوامها إعادة تأثيث العقل العربي على قاعدة التمييع الممنهج للثقافة والفكر والسياسات..لأوّل مرّة في تاريخ العرب والعالم أنّ المجال الحيوي لصناعة الفكر والفلسفة هو البيئة نفسها الحاضنة للدواعش..فالحرب القائمة ضد المفاهيم وحول المفاهيم هي الأكثر خطورة حتى من الحرب على الإرهاب..ذلك لأنّ الإرهاب المؤسس لكل أشكال الإرهاب المادي هو الإرهاب الرمزي الذي بات يستهدف العقول..إرهاب يخرب المفاهيم ويؤسس للهشاشة المفهومية ويراهن على التفسيرـ التبرير بدل الفهم والتحليل..كان لا بدّ هنا من شنّ حرب ممنهجة على الثقافة والفكر وسلبهما المضمون الذي يجعل الثقافة موضوعية والمثقف عضويّا..اليوم الكلّ يتحدّث في ربيع الأعراب ولكنه على قاعدة تواصلية تهدف إلى إخراجنا من مرحلة التخلف العربي إلى حالة النّذالة..وربما قد تستمر النذالة طالما أن الاقتصاد السياسي للنذالة لا زال يمتلك مخزونا احتياطيا سعى ولا يزال لتعهير المشهد العربي واستعباده واسترهابه...
|