قراءتي ماهي إلا مقاربة لنصّ ، لِمَ قدّم من مشروعه الحلمي ، في اللغة والرؤية ورغبة الاغتسال بماء الطهر ، ومعرفة سرّ مفتوح على احتمالات البوح وأشياء أخرى.. ولعلّ أبرزها ما حمل ذلك النابض بحجم كفٍّ، من حبّ وطن، واكتماله بنصف مفقود خلق من ضلع، لمّا نزل في انتظاره.
قراءتي جاءت لرغبة في زيارة الشاعر في رحاب قلب ، لعلي أغيّر قليلاً في رسم خريطته ، فأقتفي بادئ ذي بدء أثر شاعر راحل، بينما ترك مقولة تنمّ عن تواطئي معها:" عند كلّ زيارة شاعر يتغير العالم قليلاً أو كثيراً."[1]
ها هي القصيدة بين يديّ ، تغطي عينيّ بأنوثتها ، أستحمّ في وجعها وشقائق نعمانها ، سأجعل منها عدوى لتنتقل إلى وجدانك ، فهلا رافقت خطوي؟!.
اطوِ إذن، كلّ ما قرأت ، ضعه جانباً إلى حين ، ورصّع الوقت الآنيّ ، أمام قصيدة تهدل بين يديك ببهائها ، كما تهدل باستحياء نقوش الحناء على الرّاحتين، لتشي بألف حبّ مستتر .
لن تكون القصيدة مترفة بالحبّ ، ولا بالجنون ، ولا ببصمة نبضٍ فحسب، ستكون مطعّمة بألم موارى ، والحاذق الذي واراه، يدفعنا بسحرٍ لنتلصص على ما وراء درفتي الباب ، على نورٍ ، على أملٍ ، هو الشاعر الدكتور" سعد الحداد " [2]
هل تشتمّ معي فوحها؟
ثمّة بلاد ،وسْعها وسعُ عرش الإله، تفيضُ ماءً ، تقرع أجراس المطر كلّ حين ، بيد أنها تتعشق نهداً. قطرة منه تطفئ الظمأ ، قطرة تعادل مياه الكون آناء الخلق ، حيث ماء وعماء.
ذات بداية ، كما الفاتحة تأتي ، برشاقة عبارة وذوق من شاعر يطلب من البلاد ، لا من الحبيبة ، لا فرق بينهما، فهو يراها ككلّ شاعر عاشق لهما لدرجة التوحد ، لا يستطيع الفصل بينهما أبداً، فالشاعر نزار قباني ما كان ليفرق بينهما ، كلاهما مقدس، وأثير ، ومستثنى، حتى ليقول لحبيبته عن دمشق، مختزلاً البلاد بها:
" ألا حظت
كم تشبهين دمشق الجميلة .."
ديدن الشاعر "سعد حداد" في قصيدته، أن يرتّق الصفحات التي مُزقت ، ليستعيد الكتابة عما يجيش في النفس الوهاجة من حبّ قادم ، سيخيط منافذ النبض ليبقيه أعزل من الفرار، والصّخب في القلب، الذي كلّ أعتابه تتهيأ ، ليقف الشاعر ممهداً لسيمفونية ستعزف لحن الحنين ، فهو على الرّغم من بقائه في البلاد ، بيد أنه يتوقها ، هائم بها، فهي الحبيبة التي يغلي حبها فيه:
" حبك لغزٌ ينفردُ بالحنين
وبعضُ دمي يلهثُ
لم يزهرْ فيه سواك
غصناً مازال ينمو في الكفين"
في أعلى زقورة من العشق ، يؤرث نفسه للانبعاث .هذا الدّم اللاهث ، الذي يؤول إلى اخضرار ، ومن ثمّ إلى إزهار ، لينتفي فصلُ الاحتطاب واليباس ، وليبدأ الإنبات ملحمة نشوره.
لا فرار..
لا مهرب..
يعود- يا لغبطته !- تأسره الأقمطة وليداً ، فيتلوى كالملسوع بأساور أرجوانية ، لن يبارحه ذلك الهوس، ليكونه أسيراً بدوائر نبضِ معصميها، لعله يعود ، ككلّ بداية مرشوشة بالرّغبة ،يقرأ روحها .
هذه القصيدة النثرية ، جاءت دفعة واحدة ، ودفقة واحدة ، هكذا أوشى دكتور سعد بسّره إليّ. أصابعه لم تكد تلاحقُ فكرته ، سراعاً أتت الصور ، العبارات ، الحالة المتلبسة، اللغة الأنيقة، ما هو ماض مروراً بالموروث الشعبي، إلى ما هو حاضر، لينبلج إلى آتٍ، حيث لا حدود للانبهار.
فقلت في سرّي : كذا يكون الشاعر.
وتذكرت حين قال نزار قباني عن أنّ الشعر قدره :" أن يكون الإنسان شاعراً في الوطن العربي ليس معجزة ، بل المعجزة أن لا يكون ."[3]
بعد قراءة القصيدة الدّافقة ، وبعد بوح الشاعر ، كنتُ متأرجحة بين ما قاله القباني ، وبين ما يقوله الدكتور سعد.
كلاهما يتفق على أننا :" محاصرون بالشعر، ومرغمون على كتابة القصائد ، كما أرض مصر تحبلُ بقطنها ، وأرض الشام بقمحها ، وأرض العراق بتمورها، نحن محكومون بالشعر..."[4]
وأتساءل كيف يأتي الشعر رهواً عبر إحتراقات ممضّة ، ولا يأتي سهلاً كشربة ماء في وقت ما ؟!
لا شك أنه نما زمنياً في داخل الشاعر ، وراح الشاعرُ الحقُّ يراقبه وهو ينمو وينمو، فالشعر ليس سهلاً ، ولا ابن لحظة. إنه يشبه ظهر سيزيف الذي أحنته صخرة المعاناة والغصص والألم ، والتفكير والتفجع .
وقصيدة "أحبك جداً جداً" حين أتت كغيمة أمطرت هطلها ، قد سبقها زمنٌ من الالتماعات ، ورحلة صمتٍ اعتصرت الدّاخل المستعمر، ثم انتظرت ريحاً تدفعها إلى أرض تستأهلها ، وهذه الرّيح هي امرأة تشبه الريح ، حرّكت دواخله ، هزّته ، فبعثرت ترتيب لحظته ، وأشعلته حريقاً لا يقاوم .
امرأة أتت وقد لا ترحل سريعاً ، لأنها خلّفت – لن أقول وراءها- قصيدة ترتقُ جرحاً عميقاً ، امرأة أقنعت حرفه بالمثول بين يدي البياض الممتد أمامه.
إنها ليست ولادة دون حمل ، ولا هطلاً دون تشكيل مُسبق ، هي ليست طارئة أبداً .
وإذا عدنا إليها ، وفكرنا كيف مزج الشاعرُ بين البلاد التي تحترق اغتيالات ودماً ، فلا نعرف هل تفيض ماء ، أم الدّم صار ماء ، وبين أنثاه التي يعشق وقطرة من ثديها يغني؟ ليعيد قراءة الرّوح المترفة ، ترى بمّ هي مترفة ؟! يتوقف الشاعر هنا ليترك لنا أن نقدّم المضاف إلى النعت ، ولن نضيف شيئاً إلا إذا أتممنا القصيدة وقرأناها مراراً ، وخبرنا ما جرى للعراق عبر عقود ، بل قرون ، واخترقنا دواخل الشاعر المتشظية ، ثم رغبته المحمومة في أن يتمنطق أحزمة العشق.
ف:" العشق حروب ناعمة من رحيق
لها طعم الحمى المعتقة بالجنون .."
هذا المزج، بين متعة الحروب الناعمة ، وبين حمى يعتقها الجنون لأعوام خلت ، إنما يشكل الدّهشة ، فكيف بناعم بين العشق وأنامل حروبه ، وبين أهوال السعير الذي أدمى القلب ، واقتضى ألف فداء ، ولم تنفع كلّ هذه الأضحيات !
فالدّهشة، أنّ الشاعر تواطأ مع الجنون حتى استطاع أن يميط اللثام عنه ويذهب به نحو البحر ، ليرقص مع أمواجه ، ليس ذلك فحسب ، وإنما امتطاه صهوة ، هو ليس يدري إلى أيّ بلاد تأخذه ؟
أيّ بلاد تتخذ الهلال شعاراً أخضر ، أم صليباً ، لا فرق.
فالبلاد التي ترحبُ بحضوره تحاط بالعيون التي ترقب المجيء .
ويعود ليماهي بين البلاد والأنثى ليزهر ناي عذب اللحن على الشفتين ، يعزف سرّ الشاعر .
لم الناي ولم يكن الأورغن مثلاً ، أو العود أو الجيتار، أو البوق ، أو ؟
لأنّ عزف الناي في كلّ أطواره يبدو حزيناً ، يبكي وجعاً وأنيناً ، والحزن ليس جديداً في العراق ، وليس جديداً في قلب الشاعر العراقي .والناي يعتبر أقدم آلة موسيقية في التاريخ [5] وهذا يُشير إلى حزنٍ عميق التجذر، .لقد اقترن الصوت الرّخيم الشجي بملحمة حزن ، ليعطي شعوراً به وبالبكاء، والأسطورة تقول :
إنّ سرّ كلّ ناياتي لا يفضيه !
رباه ، رباه!
قد عرفنا سرّك أيها الناياتي !.
" أحبك جداً جداً."
من تراه يُخاطب؟
هي البلاد التي شبه جغرافيتها بتضاريس حبيبته، وهو الشاعر الرّهيف الذي يعرف أنّ البلاد التي تمنحه وجوداً تتشارك فيه المرأة ، فهي تعطي قيمة الواقع والوجود من خلال تدفق حيويتها كعنصر فاعل ،فهي عنوانُ عطاء ومعين لا ينضب ، وكذا الحبيبة، التي تمثل هذا العالم الذي يحبه الشاعر ، وهي زاخرة بمشاهد الطبيعة ، وتشكل مهابط لعين تعشق الجمال، وكذا الحبيبة التي اكتمل بها الوجود.
والليل.. هو الذي يشي بتلك التضاريس التي تعرف متى تبوح ، وكيف يقدم على افشاء سرّ ألوان الشاعر التي نقشت على راحتيه ، إنّ النقش على الراحتين إنما هو ما خبأه الشاعر في قلبه ، فأباح الليل بالسرّ ، ومع ذلك فإنّ وسيلة البوح تهب المسّرة ، وتعلن شعراً متمرّداً تفاخر به الحبيبات.
يقترب الشاعر من تضاريس الحبيبة ، يمعنُ النظر فيها ، إنها مرآته، اصطفاها لتكون أنثاه ، تشبه بلاده ، تشبه عوالمه ، تشبه وجوده ، تأتلق كبحر تحت أشعة شمس ، والتشبيه هنا في منتهى الروعة، إذ يتناقل بين حركة لونية ، وحجم ، ليضيف دلالات تضاعفُ من شدّة إحساس الشاعر بالأنثى ، وبعمق التشبيه وحرارته وغموضه .
يضمحل الليل أمام الشاعر، فيرى بوضوح ذلك الخال ، الذي تشهّته القبل التي رسمت طريقاً إليه لترشه بألف لمسة.
وشفّ الثغر عن شفتين تومضان برغبة الاقتراب ، ولا يسعه إلا أن ينطق : أحبك أنثاي.
هي أنثاك إذن؟!
تلك التي حرّضت البركان تحت جلدك ، فحرّكت حزن البلاد في داخلك لتطوقك كالشجر اليتيم .
إنها أنثاك تروّض الاحتمال فيك ، فتنبري أنت لتخلع عن أغصانِ الشجر الممتدّ هذا الحزن الكئيب ، ولتتهجد في الثمر الذي أينع أمام عينيك ، بحجم تضاريس غير قابلة للارتجاع إلى أزمنتها الأولى ، سيرتها الأولى.
فتصابُ بالذهول. اشربْ خمرته أيّها المجنون ، والمتسربل بالدّهشة التي صاحبتها صاعقة .
ماذا تطاردُ عيناك ، هل ثمّة ما يشبه هذه الغابات من غابات؟ وبحاراً من بحار ؟
ودفئاً على الشواطئ ما بعده دفء؟
" أعتصر الجنون
وأشدُّ وثاق الضفيرة
بشفتين من لهب.."
دعني أبترُ القصيدة ، وأرسمُ المشهد ، فقد راقني حين تفضح الضفيرة ألف جمال ينبثق من الكتفين والظهر ، وتلمعُ ألف نجمة على النحر والخصر، والعديد من الورود راحت تفردُ بتلاتها ، وأنت، ما أنت فاعل؟!
"أسرحُ في الورد
أبعثرُ النبض رذاذاً .."
لا شيء يقف أمام رقصك، ولا عبق يستعذب ظلمة القوارير .
رحتَ تلاحقُ كلّ هذا برقصك، الذي توالد عشرين ألف حركة جنونية .
أيّها الشاعر!
ما عاد المكان يكفي حركاتك ! ولا الزّمان ما عاد واقفاً ، لقد تمدّد ليتلبس كلّ الأزمان ويتسع في كلّ حركة ، ولينفتح الكون خرائط، لوّنها الحلم على نافذة الأمل فماذا نسمي الرّقصة التي لها طعم البلاد الجديد، ورائحة الأنثى المشتهاة ، ولون الدّهشة ؟
إنها قصيدتك تسافرُ إلى آتٍ ، لا يربطه انتظار ، أو يحدّه حلم ، أو يعيره قيد .
لقد أفلتت من كلّ هذا ، واتجهت صوب مغامرة ، أنت من رسم طلاسمها ، وأطلقت حروفها لترسم حريتها.
إنّ قصيدة " أحبك جداً جداً "
مثقلة بالرّمز وكثافة التصوير ، تدفع المتلقي لأن يستنفرَ بصره ورؤيته ، ويشحذ سكين قراءاته ، محاولاً أنْ يفجّر مكامنها، فيترف بما في عمقها من أسرار ودرر، فهي قد تبدو غزلية للوهلة الأولى ، بيد أنها تحتفظ بهذا العطر إلى أبعد من ذلك بكثير ، فالرّغبة في التخلص من أدران الماضي ، وما في الماضي من حزن وانكماش ، وأقمطة تعوق الحركة ، واللهاث وراء حلم وانفتاح وتحليق.
" فاخلعُ عند أغصانها حزني
وأتهجدُ في ثمارها الملاح.."
تحريضٌ على دلالات مثقلة داخل المفردة القابلة على الإثارة والاستفزاز ، وتأريث شهوة التلقي بفيض من ترقب ، وتفاعل مع المكان، وجنون فضاءات مغايرة تدور مع الأقدام الراقصة.
...........................................................................................
[1] - هو الشاعر نزار قباني- كتابه قصتي مع الشعر –منشورات نزار قباني- بيروت-196-ص77
[2] - شاعر وأستاذ جامعي من العراق- اهتم بتحقيق الكتب.
[3] - قصتي مع الشعر – نزار قباني – ص 16
[4] - المصدر السابق – ص16
[5] - باستثناء آلات الإيقاع. |