• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : اعتراف تلميذ! .
                          • الكاتب : عماد يونس فغالي .

اعتراف تلميذ!

هوذا تلميذٌ صار عمرُ تخرّجه خمسًا وعشرين. يعود في الذاكرة إلى إحياءاتٍ طالبيّة لوجهٍ من أيّام الدراسة، لا شكّ انطبع في نفسه وطبع فيها!
هو تلميذ الراهبات، حيث المسؤولة راهبةٌ من طراز القاسيات، اللواتي لا يعرفنَ إلاّ التعليمات الجافّة والعقوبات الحازمة. والوجه متجهّمٌ عبوس، لا يعكس إلاّ تصلّبَ القلب وجفاء الروح.
كرهها يقول، وتمنّى لها كلّ مكروه. تمنّى لها الموت! هاها، هذه حالُ طلاّب كلّ زمان على كلّ حال. لكنّ التلميذ كَبُر، وللسخرية، صار معلّمًا. ويحسن القول إنّ عوداتٍ إلى حاله التعلّميّة تتجسّد أمامه. يعيش اليوم مع تلاميذه ليستعيد من خلالهم شعوره يوم كان في صفوفهم.
وفي هذه الحال، تستفيق فيه مشاعرُ قديمة تجاه راهبةٍ، كم كان يكنّ لها من السوء في الفكر والأمنيات. لِما كان يظنّ أنّه يلقى منها الظلم  يعود اليوم ليقولَ لها في تفكيراته:
اليوم كبرتُ وصرت أستاذًا، وعرفتُ أنّني إن كنتُ أفقه بعض العلوم فمن أعصابك التي أحرقناها، وإن تكلّمنا بلغات أجنبيّة، فمن عروقك التي انتفخَت من الصراخ علينا. وإن نجحنا في حياتنا، فمن كدّك ووقتك ودمكِ وجسدكِ الذي تعب بسببنا. لا زلتُ أذكر لهفتكِ وعينيكِ ترقصان يوم نجحنا وتخرّجنا. يومَها اكتشفتُ للمرّة الاولى أنّكِ تضحكين، وأنّ لكِ وجهًا غير الذي كنا نراه".
اكتشف صاحبُنا في راهبته ما كان يظنّ أنّه لا يمتّ إليها بصِلة. اكتشف وجهًا إنسانيًّا، يفرح ويبتسم. يعبّر عن مشاعره بصدق، فتغيّرت الصورة. قل انقلبت تمامًا. يقول: "يومها اكتشفتُ للمرّة الأولى أنّكِ تضحكين، وعندك وجه غير الذي كنا نراه.. للمرّة الأولى رأيتكِ راهبةً تفيض محبّة. نعم كانت هذه المرة غير كلّ المرّات. كنتِ أمًّا تفرح من قلبها لنجاح أبنائها. خرجتُ يومها بمشاعر متناقضة".
في الواقع، بين تعرّف حقيقته معلّمًا، والمشاعر التي تختلجه في مواجهة أطباع تلاميذه و"تعذيباتهم"، وبين عودته بالفكر والذاكرة إلى الأخت الراهبة في اكتشافه طبيعة حالها والتناقضات التي تعيشها، يكمن انقلابُ نظرته، لا إلى متفهّم أو متسامح وحسْب، بل إلى نادم ومعترف بخطأه. "كرهتُ نفسي لأَنِّي أكرهكِ واكتشفتُ أنّكِ تحبّينني".
ما يُلفت خصوصًا في هذه القصّة، إنَّما هو إصرارُ الرجل على توجيه رسالةٍ عبر العالم، متوجّهًا إلى "أخته" الراهبة، يعتذر إليها عمّا سبق وبدر منه. في الحقيقة، لم يبدرْ منه شيء. وهو يعتذر هنا عمّا سبق وشعر به تجاهها. عمّا تمنّى لها من سيّء الأمور. يقول هذا عبر الدنيا، لا لتعرف هي بما يخالجه وحسب، بل يعترف جهارًا ليصل إليها أكيد، وهو لا يعرف أين هي ولا كيف يصل إليها، ولكن بشكلٍ خاصّ، كم كان هذا الرجل، التلميذ، شبيهًا بكثيرٍ منّا حيال معلّمينا والمسؤولين عنّا في المدرسة والجامعة، وفي الحياة أيضًا. كم يشبهنا في حكمنا على تصرّفات الآخرين، دون إدراك ظروفهم.
تحضرني هنا ما نُشر مؤخّرًا حول معلّمٍ سخر منه طلاّبه لأنّه يلبس في يده ساعة نسائيّة، ليتبيّن لهم لاحقًا، أنّها ساعة زوجته المتوفّاة...
نعم، إنّ توقّعات صاحبنا معذورة. فهو كتلميذ، يتلقّى قساوة المسؤولة وصرامة حفاظها على النظام، وفرضه "دون رحمة"، ما يجعله ينفر منها، ويرجو التخلّص من وجودها "فوق رأسه". إنّه أمرٌ طبيعيّ.
لكن اكتشافه حقيقتها الإنسانيّة، يميّزه الاعتراف به وتوجيه الاعتذار لها بحبٍّ معلنًا "ندامته" وطفوليّة حكمه عليها، هو ما يدلّ على كبر نفسه وبيان ذاته ناضجًا.
هذا ما ينقصنا!
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=73818
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 01 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14