في كلّ يوم تتلقى المرجعية العليا عشرات السهام المغموسة بسموم الاحقاد والضغينة ولا سبيل الى ذلك سوى ادوات الاتهام والتسقيط وتشويه الحقائق اعتماداً على عامل التجهيل والاستغفال ودفع الناس نحو امواج الفتن وهم يترنحون تحت سكر الاكاذيب التي حقنها اعداء المرجعية دُمى بني ماسون في جسد التشيع تهديماً لبنيانه المرصوص وتفتيتاً لكيانه المتماسك..
سيما بعد ان ادرك أعداؤنا القيمة السياسية والاجتماعية والحضارية الكبيرة للمرجعية عند الشيعة الإمامية, والدور الكبير المؤثر في حاضرنا وتاريخنا المعاصر وقدراتها العالية على قلب الموازين , منذ فتوى الإمام السيد محمد حسن الشيرازي رحمه الله بتحريم التبغ وحتى اليوم ، فكل يوم يبرز لنا صعلوك قد تعلم رسم الحروف حديثاً وبدل ان يتعلم كيف تُكتب الكلمة الصادقة صار يقذف امراء الكلمة وأسياد المواقف العظيمة المشرفة ..
كان آخر ما قرأته هو مقال لأحدهم لم اجد فيه سوى الاكاذيب وخلط الاوراق وتشويه الواقع والتجني على المرجعية ومقامها السامي باتهامها بكل ما آل إليه البلد وتحميلها وزر وتبعات السياسيين ولو شممتم رائحة نفسه وعرفتم ولاء عبوديته لبطل العجب الذي ربما يتملك بعضكم حين يقرأ سطوره المشحونة بالحسد والبغضاء والتسقيط وبنهاية هذا المقال سأذكر لكم ما يقنعكم بسجوده أمام مَن قدّسهُ رباً كـفرعون يعبده دون الله ، يقول في بعضها مخاطباً عزت الشابندر المعروف بالانتماء الليبرالي تعليقاً على تعرضه هو الاخر للمرجعية واتهامها بذات الاتهام :
((أنّ المرجعية الدينية العليا تتحمّل المسؤولية كاملة عن هذا الدستور الذي وصفته بأنّه واحدا من أهم أسباب تدمير العراق))
و ((أنّ المرجعية الدينية العليا هي التي شّكلّت اللجنة السداسية التي اختارت النوّاب الشيعة للجمعية الوطنية , وهذه اللجنة تتحمّل أمام الله وأمام الشعب وأمام التأريخ كل ما يمرّ به البلد من مآسي وآلام)) .
مَن كان على اطلاع ومتابعة يعرف انّ هذه الاتهامات ليست بجديدة ولكن للاسف بتكرارها قد لقت بعض الآذان الصاغية ، وقد ذكرت سابقاً الغرض من اطلاق هكذا تُهم في مقالٍ سابق ، فهؤلاء ليسوا سوى اذرع تُنفذ ما يُرمى إليها انتقاماً من المرجعية التي افشلت مشاريع شياطين الانس في هذا الوطن وشعبه ، فبتلك الاتهامات يبتغون نسف جهد المرجعية التي اعادت لهذا البلد سيادته بعد ان انتزعتها من بين انياب المُحتل بحكمتها وغلبته بمناورتها التي اعجزت بها خصومها عندما كان الشعب يعوم في عُباب سباته تحت مطرقة الاحتلال ومكر المتربصين حتى دحرت مكر الغُزاة وردت كيدهم إلى نحورهم إذ جاءوا ليستعبدوا العراق تحت ذريعة الديمقراطية فقلبتها المرجعية وألزمتهم بما جاءوا به ، حتى هتفت شعوبهم واقلام كتاب اوطانهم السيستاني يُعلِّم الغرب معنى الديمقراطية، فخنعوا لإرادته وسنّ لهذا البلد نظاماً من ارقى واسمى انظمة العالم المتحضر وقدمه على طبقٍ مِن هُدى واشترط مُصادقة الشعب عليه لتثبيته وقال ما عليكم إلّا ان تكونوا احراراً وتُحسنوا الإختيار فتم وقبلتم ! .. فهل بقيتم بعد ذلك احراراً واحسنتم الاختيار !!
اقولها بضرس قاطع لولا المرجعية لفاق العراق بلد الجزائر والمليون شهيد و130 سنة من الاحتلال !!
فلم تكن فرنسا بقوة اميركا اليوم ولم يكن الاحتلال
تحالفاً من عشرات الدول التي كشرت انيابها لتنهش جسد العراق.
فليت شعري كيف يُجحدُ فضل مَن اركع اعتى واكبر قوى العالم أمام إرادته دون ان يُريق قطرة دمٍ واحدة في تنفيذ مشروعه الذي انقذ فيه العراق في غضون سنوات قلائل وساق قوات الاحتلال خارج حدود البلد وهي تجر خلفها اذيال الفشل والخيبة باعتراف كُتابهم ومحلليهم ، وهذا نص ما كتبه المحلل الاميركي توني كارون في مقال نشره في صحيفة "ذي ناشيونال" الاميركية:
(( إذا كان الجمهوريون يبحثون حقا عن رجل واحد لتحميله مسؤولية الانسحاب الاميركي فلن يكون لا الرئيس جورج بوش ولا أوباما، ولكنه آية الله السيد علي السيستانى، عالم الدين البارز. فهو الرجل الذي حرص على التأكد من تكفل العراقيين مستقبلا بديمقراطيتهم وليس تكفل الأميركيين بها))
ولا اتوقع رداً مِن الحاسدين الضعفاء سوى ان يتجاهلوا عنوان مقالة الاميركي وتحليله الموضوعي وطرحه الصادق للحقائق التي تناساها العراقيون قي ليلة وضحاها! وسيقولون ان توني كارون سيستانياً !!
وسيقولون في الكاتب الامريكي "وايتلو" اكثر من ذلك عندما يعرفونه قد تسائل قائلاً: ((كيف لقرارات هذه الشخصية الهادئة المتنسكة أن تهز اوساط الحكومة الامريكية المحتلة في العراق وايضاً المحلية "يقصد بالمحلية تلك الحكومة التي في واشنطن" ))
ولو ذكرت لهم عدد الذين كتبوا في المرجعية السيستانية في الغرب كفتاح وبينيت وغيرهما لاُغمي عليهم حسداً حتى جامعة وين الرسمية الاميركية ومراكز الابحاث والدراسات الاخرى في العالم الغربي ايضاً سيقولون عنها سيستانية لأنها أعطت شهادات جامعية عليا بدراسة السيد السيستاني ..
تعالوا لنستذكر بعض الاحداث الماضية لنعرف حقيقة ذلك الدستور واللجنة السداسية التي سنتناولها في الحلقة الثانية :
يقول اية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي في حق مرجعية الامام السيستاني ودوره في حفظ العراق في كتابه (المؤسسة الدينية بين الواقع والإفتراء) رداً على مشروع تسقيط المؤسسة الدينية:
((وكان رأي سماحته (دام ظله) في تلك الظروف ضرورة احتواء ومصادرة المشروع الامريكي لاحتلال العراق من خلال المطالبة بتدوين دستور للعراق , يشارك فيه كل الاطراف العراقية, ويصوت عليه كل العراقيين.
ثم بعد ذلك الدعوة الى انتخابات نيابية عامة للعراق يشارك فيها كل العراقيين بشرائحهم المتعددة, وانتخاب حكومة وطنية من خلال هذه الانتخابات.
وكان من رأي المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف أنّ هذا المشروع الوطني (تدوين الدستور واجراء الانتخابات) يطوق الاحتلال ويؤدي الى افشال خططه في التحكم بمصير الشعب العراقي وتغيير هويته الثقافية))
نفهم من هذه الشهادة الصادرة من طود شامخ كالشيخ الآصفي (قدس) ان المرجعية العليا المتمثلة بالسيد الامام السيستاني (دام ظله) هي مَن افشلت المشروع الاميركي الذي كان يقضي بتأسيس عراق جديد خاضع تحت هيمنة اميركا حيث رسمت معالمه في اول ايام احتلالها للعراق عندما عينت حاكماً عسكريا واستبدلته فيما بعد بحاكم مدني (بول بريمر) -الذي بات فيما بعد يأنُّ من ضربات المرجعية حتى خاطب واشنطن متوسلاً باستبدال الرامي هرباً من فشله بوجود الرجل الذي لم يحسبوا حسابه بحسب مذكراته التي دوّنها- ثم تدرجت اميركا بتنفيذ مشروعها وانتقلت لخطوة تشكيل مجلس استشاري تحول فيما بعد الى مجلس حكم وفرضت ان يُعتمد قانون ادارة الدولة المؤقت كمصدر اساسي للدستور الدائم (دستور اميركي) والذي رفضه الامام السيستاني بلهجة شديدة في رسالة وجهها لرئيس مجلس الامن الدولي بتاريخ 6/6/2004 محذراً إياهم من اعتماده وإضفاء الشرعية عليه ، فضلاً عن سعي اميركا في إقامة حكومة علمانية موالية لها يقودها رئيس وزراء خاضع لإرادتها وربما قد تطور تجربة الاحتلال البريطاني الذي انتقم من العراقيين وعلى وجه الخصوص انتقم من الشيعة بعد ثورة العشرين الكبرى بتعيين حاكم غريب بعيد ليس بعراقي والعمل بالتمييز العنصري والطائفي وإقصاء العراقيين الذين لا يملكون الجنسية العثمانية بسلبهم وطنهم وانتمائهم الحقيقي والحكم عليهم بالغربة والضياع ونفي العشرات من علماء الشيعة خارج العراق ، لذا نفهم ان المرجعية العليا تتحرك انطلاقاً من موروث تاريخي عظيم وكم هائل من التجارب وليس للخطأ مكاناً في حساباتها الدقيقة ، لأنها ادركت ان اميركا لم تأتِ لتخلص العراق مِن نظام صدام الديكتاتوري بل جاءت لتحتل العراق وتستعبده إلى ما شاء الله لهذا خاطبته بالمحتل في الكثير من الموارد ومنها في الرسالة التي وجهتها لرئيس مجلس الامن الدولي والمذكورة اعلاه ، والحقيقة التي لا ينكرها احد هو ان اميركا قد اصطدمت بجبلٍ حطم رأسها.
ونذكر خلاصة المحاولات الاميركية وردود الامام السيستاني عليها كما ذكرتها الدكتورة نجوى الجواد في كتابها (المرجعية الدينية والعراق الجديد ص ٢٢٠) :
@ المحاولة الاولى : تعيين أشخاص يقومون بكتابة الدستور ، فأفتى السيستاني بعدم جواز هذا التعيين ، وذلك في حزيران 2003 م .
@ المحاولة الثانية: اجراء انتخابات جزئية لمجلس يقوم بكتابة الدستور تقدم بها الحاكم بول بريمر في تشرين ثاني من نفس العام ، فأصر السيستاني على اجراء انتخابات عامة . فأفشل تلك المحاولة وقلبها ضدهم .
@ المحاولة الثالثة: اعتماد قانون ادارة الدولة المؤقت ، فرفض السيستاني ان يكون المجلس المنتخب مجبراً على القبول بهذا القانون.
وتذكر الجواد في ذات الصفحة من المصدر السابق انهُ ( جاء رد الفعل من قبل المرجعية على المشروع الامريكي المطروح مفاجئاً للادارة الامريكية .... فقد اصدر السيستاني فتوى في 29/6/2003 اسقط بها صلاحيات سلطة التحالف او اية جهة اخرى في تعيين لجنة لكتابة الدستور ورفض الخطة الامريكية ابتداءً . ثم اصر على اجراء الانتخابات الشاملة ليشارك فيها كل عراقي في سن الانتخاب لاختيار ممثلين للمجلس التشريعي الذي سيكتب الدستور . واشترط ايضاً ان يتم الاستفتاء الشعبي عليه))
فيا أيها العراقيون لم يحمكم احد من سطوة الاحتلال سوى السيستاني الذي قدم لكم السلطة والاختيار على طبق مِن ذهب وخيركم انتم في كل ما جاء في الدستور الذي حفظ فيه وطنكم وسيادته وكفل فيه حريتكم واستنقذكم من مخالب الاحتلال.
ولم ينتهِ الأمر إلى هنا بل كانت هذه بداية الصراع بين المرجعية العليا مِن جهة وبين الاحتلال ومؤيديه من القوى السياسية السنية والعلمانية وبعض الكُورد ، واعظم ما كانت تخشاه اميركا واعوانها هو الانتخابات العامة لتأسيس الجمعية الدستورية وهنا قد فضح السيد السيستاني مكر اميركا ومن معها من دول التحالف إذ كشفها للعالم على حقيقتها وانها لم تأتِ لتُطبق الديمقراطية كما تدعي بل جاءت لتنفذ مخططاتها وكانت تخشى الديمقراطية الحقيقية لأنها تدرك ان المستفيد الاكبر منها هم الشيعة لأنهم يكونون اغلبية الشعب العراقي -كما سنفصل ذلك في الحديث عن اللجنة السداسية- وليس من مصلحتها ذلك بينما المرجعية نادت بما يكفل حق جميع مكونات الشعب العراقي دون ان تُصادر حق واحد فيهم لذلك كتبت اقلام العالم (السيستاني يعلم الغرب معنى الديمقراطية) .
فانتهت تلك الخلافات باتفاقية ١٥ تشرين الثاني والتي كانت تستهدف العراق والمرجعية بشكل اساسي إذ بتمريرها يُحكم على العراق بالدمار ومن هنا برزت صلابة الموقف الشيعي الغاضب المتمثل بالقوى السياسية الشيعية ، ولكن سرعان ما انبرت المرجعية وقلبت الطاولة وعدّلت تلك الاتفاقية وافرغتها من كل ما يُهدد مصلحة العراق وشعبه فعبر عن ذلك المراقبون السياسيون وقال بعضهم: (استطاع السيستاني الإلتفاف حول اتفاقية ١٥ تشرين الثاني وتوظيف ما جاء فيها لضمان مصالح العراقيين) وعبر بعضهم عن تلك الخطوة بأنها ( اقصى درجات المخاطرة في القرار السياسي) وفي طرح مشروع المرجعية البديل تفصيل واسع لا يسعنا ذكره في هذه السطور ، وليت الحمقى يدركون كم حاربت المرجعية من شياطين كي تنقذ البلد من مكرهم وكيدهم الذي كان يبدأ في افشال الانتخابات العامة التي سلبت الاحتلال وادواته كل آماله.
وفي النهاية لن يتحقق إلّا ما تريده المرجعية العليا،
يومها كتبت "الجواد" في بحثها الذي نالت فيه شهادة الماجستير من جامعة اميركية : (لقد اثبتت المرجعية الدينية المتمثلة في شخص السيد السيستاني أنها مناور محترف ولديها براعة لا يمكن تجاوزها بمختلف أحابيل اللعبة السياسية استطاعت بها ان توظف كل الوسائل والمصادر من اجل ضمان مصلحة العراق والحفاظ على مستقبله . وبات من الواضح ان السيستاني قد استغل بذكاء بارع المباديء التي تنادي بها الولايات المتحدة الاميركية وسخرها لمصلحة الشعب العراقي) .
تابعونا في الحلقة القادمة . |