الدّقة التي يفتقدها العرب على مستوى العقل الأداتي ليست نابعة من هشاشة العقل العربي من حيث هو أداة، بل من حيث هو عقل سائد أو إبستيمي...إنّ العقل في العادة لا يشتغل كأداة مجردة بل هو مثل إنزيم يتحرك داخل بلازما نظامه المعرفي.. تأتي الدّقة بمهارات فردية يفرضها واقع التّعلّم والخبرة، ولكنها ليس عادة متاحة للجميع..دائما أفترض أنّ العقل العربي وعموم الشرقي لا يكون في موعده مع الحقيقة كلها ولا يحرز دقّة النهايات...إنّ العقل العربي لهذا السبب يصعب عليه إدراك النهايات وكذلك البدايات..وهو بين المبدأ والمصير يعيش على علاقة متوترة بالماضي والحاضر..لم يتقن التورخة ولا الدازاين..فزمانه سواء كان هناك أو كان في ذاته لا يعنيه..كما لا يعنيه وجوده..إنه موجود وكفى..ولقد انعكس هذا المزاج على ممارساته العقلية وعلى كيفية تدبيره المعرفة بموضوعاته..ستكون أمام هذا الفهم الذي يحتفظ دائما بقلق العبارة والفكرة..بالنسبة للعربي خلافا لعموم الشرقي هو في برزخ جغرافي..حالة مركّبة..لا هي تحمل عنّوصية الشرق البعيد ولا هي تحمل أداتية الغرب البعيد..تبرزخ المزاج العربي يجعله يرى الأشياء في حالة تتاخم معنوي..لا بدّ أن يكون شكيزوفرين..وهذه طبيعته البرزخية..يصنع إلهه من الحلوى ثم يلتهمه بالليل..يعدم جدّية في الدين والدنيا..إذا تدين خرّب العمران وإذا كفر خرّب العمران..الإيجابي في هذا التبرزخ العربي موجود..التحرر.. إنه ظهر لا يركب..وهذه القيمة نفسها تواجه الانقراض..إذا فقد العربي كرامته كما يفهمها في داخل رموزه الثقافية أصابه الوهن..لا توجد قطيعة بين المشرق والمغرب نحن معنيون بها، بل نحن تلك التخوم التي تفصل بين المشرق الحقيقي والمغرب الحقيقي..تخوم فاقدة للاستقرار..تميل مشرقا ومغربا..من هنا فإنّ مهمّة نقد العقل العربي ليست أمرا متيسّرا..إنّك تدرس عقلا زئبقيا لا يرسوا على مقولة من مقولاته..ولا على مزاج من مزاجاته..بين نظام القاطيغورياس وبين شطحات الجنون..وجب البحث عن خصوصية هذا العقل..داخل جغرافيته المتموّجة والقلقة..