بسم الله الرحمن الرحيم
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ{23}
تنعطف الآية الكريمة لتضيف محققة مؤكدة ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) , التوراة , ( فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ) , في شك من لقاءه , يختلف المفسرون في الضمير , فمنهم من يرى :
1- ( مِّن لِّقَائِهِ ) من لقاء الله تعالى .
2- ( مِّن لِّقَائِهِ ) من لقاء موسى "ع" .
واقع الحال ان كلاهما قد تحقق في ليلة الاسراء , ( وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) , تختلف الآراء في توجيه الضمير بين موسى "ع" و التوراة .
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ{24}
تستمر الآية الكريمة في نفس الموضوع مبينة ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) , قادة ودعاة الى الخير , وذلك عندما اجتمع امرين فيهم "القادة" :
1- ( لَمَّا صَبَرُوا ) : على الطاعة , او البلاء , او ما تعرضوا له من أذى الكفار .
2- ( وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) : كانوا مؤمنين الى درجة اليقين بآيات الله تعالى ودلائل قدرته .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{25}
تستمر الآية الكريمة في نفس الموضوع مقررة ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ) , يقضي بين المؤمنين والكفار , ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) , وذلك يوم القيامة , ( فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) , والقضية هي اختلافهم في امر الدين .
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ{26}
تضمنت الآية الكريمة تساءلا موجها لهم ( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ) , أولم يتبين للذين يكذبون بالرسول محمد "ص واله" او غيره من الرسل "ع" , ( كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ ) , النص المبارك يدل على كثرة الامم السابقة حيث اهلكها الله تعالى بكفرهم وجحودهم , ( يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) , اهل مكة حيث يمرون على اطلال مدن الامم السابقة في رحلاتهم التجارية , ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ ) , دلالات على قدرته جل وعلا , ( أَفَلَا يَسْمَعُونَ ) , سماع تدبر واتعاظ .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ{27}
تضمنت الآية الكريمة تساءلا اخر ( أَوَلَمْ يَرَوْا ) , أولم يعلموا , يلاحظوا , يدركوا , ( أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ) , الارض الخربة , حيث لا نبات ينمو فيها , ( فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً ) , بعد ما يساق الماء اليها بقدرته جل وعلا وتدبيراته , ( تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ ) , كالتبن واوراق الاشجار ...الخ , ( وَأَنفُسُهُمْ ) , كالثمار والحبوب ... الخ , ( أَفَلَا يُبْصِرُونَ ) , ذلك .
خواتيم الآيات الكريمة من قبيل ( أَفَلَا يُبْصِرُونَ ) و ( أَفَلَا يَسْمَعُونَ ) ... الخ تمثل رسائل باطنية تحاكي العقل الباطن لدى المخلوقات العاقلة , مثال , لو طلبت شيئا من زيد الذي يجلس بقربك , لكنه لم يسمعك او لم ينتبه لك لانشغاله بفكرة خاصة او أي شغل شاغل , ثم كررت عليه الطلب مرة او مرتين او ثلاث مرات , فلاحظت استمرار تجاهله لك , ثم قلت له كلمات من قبيل ( ما بك , الا تسمعني ؟ ! ...الخ ) , ستكتشف انه سينتبه اليك فورا , والسبب ان طلبك كان يحاكي عقله الظاهر الذي كان مشغولا بفكرة خاصة , اما ( ما بك , الا تسمعني ...الخ ) سوف تحاكي عقله الباطن فينتبه ويعود الى رشده , مع ذلك فأن هؤلاء المعنيين بخواتيم الآيات الكريمة لم يستجيبوا لتلك الرسائل الباطنية والسبب :
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }البقرة88 .
{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً }الإسراء46 .
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }محمد24 .
القلب قد يشير الى الروح او العقل , في الآيات الكريمة كان يشير الى العقل , وبالتحديد العقل الباطن , ووصفته بأنه أغلف , مغلق , مقفل , اما عقلهم الظاهر فلا يزال يعمل بشكل جيد وسليم , بدلالة تدبير امورهم المعاشية .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{28}
تروي الآية الكريمة على لسان المكذبين ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ ) , يسألون عن وقت هذا القضاء , الذي يفصل بينهم وبين المؤمنين , سموه فتحا لأنه خاصا بالمؤمنين , فذكروه على نحو السخرية , ( إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) , في دعواكم ووعدكم .
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ{29}
يأتي الرد على تساءلهم مباشرة في الآية الكريمة ( قُلْ ) , قل لهم يا محمد , ( يَوْمَ الْفَتْحِ ) , حينه :
1- ( لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ) : لا ينتفع الكافر بإيمانه ذلك اليوم { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ }الأنعام158 .
2- ( وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ) : ولا يمهلون لتوبة او استغفار او اعتذار .
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ{30}
يستمر الخطاب في الآية الكريمة للنبي الكريم محمد "ص واله" ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) , دعهم , اتركهم , انصرف عنهم , ( وَانتَظِرْ ) , من جانبك ايها الرسول انتظر نزول العذاب عليهم , ( إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ ) , يكشف النص المبارك عن ان الكفار من جانبهم يتربصون نزول الدوائر والمصائب على الرسول محمد "ص واله" والمسلمين معه .