لقد كان لرسوخ فكرة أمّية الرسول الكثير من الآثار السلبية على المجتمعات الإسلامية..لقد تمّ تحوير هذا المعنى بصورة وضعتنا أمام أكثر أشكال المغالطات التاريخية..تصوّر أن مفهوم أمية الرسول يمنح معنى الأمية حسب المعايير المتعارفة في التربية والتكوين المعاصرين..مع أنّ قضية الكتابة والقراءة لم تكونا تقليدا أغلبيا ولا كان التعليم جزء من الاستهلاك العمومي..فكيف يكون نبيّا من غيّر وجه التاريخ بعلم وحقائق تغري كل العصور؟ لقد كانت اللغة جبلّية يقوم نظامها في اللاّوعي بينما كان نمط التعلم ضاربا في الشفهية..فالعلم لم يرتبط يومئذ بالكتابة..ومن كان يجيدها كان مضطرا لأنها تصلح لكتابة العقود وقراءة المراسلات..وكانت ثقافة العرب شعرية فيها ينظمون كل حقائق ثقافتهم ومعارفهم..كان الشعر هو ديوان العرب..والشعر ينظم في الخيال ويخزن في الحافظة..ما كان العربي في حاجة إلى أن يكتب إلاّ بعد أن أصبحت ثقافته تنفتح خارج الشعر على صنائع علمية أخرى..ولأن القرآن ما كان من الشعر لزم أن يكتب ويدوّن وهكذا كان..وكان الغالب على معنى الأمية هناك أمور منها أنّ النسبة يراد بها الجغرافيا لا العلم..أي الأمّي ابن أمّ القرى لا المنسوب للجهل بالقراءة والكتابة...وكان الغالب في إطلاقها في اصطلاح أهل الكتاب أنّ العرب بالجملة يومئذ أمّيون لأنهم ليسوا أهل كتاب منزّل وليس لأنهم ليسوا أهل كتابة..في سيرة النبي مواقف كان يدرك فيها الخطّ ويندب لتجويده بتفصيل مذكور في مصادره وهو ما كنّا عالجناه بتفصيل في كتاب "محنة التراث الآخر" قبل الجابري وقبل شحرور بسنين عددا..كما كان مطروقا قبل ذلك بقرون خلت..إنما المشكلة هنا تكمن في تكريس مفهوم الأمية بالشكل الذي ساهم في تخليف العقل المسلم..استند الشاطبي على أمية الشريعة التي اعتبرها من المقاصد للنهي عن التعمق في العلوم..وقوم آخرون اعتبروها من الإعجاز..وكل هذا مردود عليه في محلّه..إنّما الخطورة فيما باتت تعنيه هذه القضية أي تمكين الجهل من الدّين بحيث أثرت فكرة الأمية على أجيال وجعلتهم أكثر جرأة على هدم الصناعة وخرق أسس العلم وشروطه..في بعض الأبحاث السوسيولوجية الميدانيةالتي أجريت حول ظاهرة الإرهاب التكفيري تبيّن حسب منهج الإحصاء التي اعتمد حينئذ بأنّ أغلب من كانوا يقدمون على الإلتحاق بهذه الجماعات هم أميون أو شبه أميين..وحينما يفتح التكفيريون الباب أمام هذه العيّنة ويمنحوها تحفيزا على أن أميتها تتحوّل إلى مقاصد للشرع وبأنها ممدوحة، فيتمثّل التكفيري صورة نبي أمي لكنه استطاع تغيير العالم وبلغ سدرة المنتهى ، فإنه يجد في هذا التحفيز تعويضا عن المهانة..وهكذا يستطيع التكفيري بناء على نمطية نبي أمّي ولكنه موصول بالوحي أن يكرر التجارب، ويتطلع إلى الإفتاء والحكم على المجتمع وإقامة خلافة الله في الأرض..قد نضيف إلى أنّ هذه العيّنة أيضا تتضمن نسبة أخرى للملتحقين بركب التكفيريين الإرهابيين، ويتعلق الأمر بنسبة ممن ليس لهم أب..يمارس شيوخ التكفير دور الأبوية البديلة ويمنحون للشباب من الفئات العمرية الصغيرة إحساسا بالأبوية المبكرة والاستقلال بتحفيزات تجعل هؤلاء الشباب ينظرون لأنفسهم آباء مستقلين..إنّ الأبوية والمفهوم الخاطئ لأمية النبي فعلت فعلها في تفخيخ هذه الفئات المسرنمة من الانتحاريين المفترضين..
يتعيّن أن يتناول تعديل برامج التعليم الديني قضية أمية الرسول بالتغيير..فالشريعة كانت عالمة وليست أمّية..والأمية كانت جغرافية وليست ثقافية..فالعرب يومها تثقفوا شعرا وضمنوا شعرهم حكمة العالم..فالنبي كان عالما ليس أميا..فالعلم في المجتمع العربي لم يكن كتابيا بل كان شفهيا يعتمد الحافظة..بينما القرآن يفيض بآيات تندب للكتابة..فكيف يندب نبي للكتابة وهو لا يعرفها..العرب كانوا أميين لأنّهم ليس لهم كتاب منزل..والنبي أميّ من حيث نسبته لأمّ القرى..والأمية ما كانت يوما مقصدا من مقاصد الشريعة أو الفهم..فالقرآن نفسه يقول:(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)..ومن هذه الآية أستدلّ على أنّ معنى الأمية لا علاقة له بالعلم..وإلاّ كيف نفهم اللاّإستواء هنا في حق نبيّ جاء ليعلم الناس الكتاب
|