يرخي اللّيل سدوله ويخيّم الظلام على الكون ، تسكن الحياة وتتحضّر للنّوم، كلّ شيء تتغشّاه السّكينة إلا قلبها وهواجسها، تستيقظ لتبدأ طقوسها، صباحها يبدأ عند تفلّت اللّيل من قبضة النّهار، تغسل وجهها المتغضّن الذي عملت فيه المعاول طوال سبعين عاماً بشقّ الأخاديد العميقة بين الجبال المدبَّبة ، تتوضّأ بماء دموعها لتصلّي صلاة الميّت .
النّظر في المرآة يزيدها خشوعاً ، تمعن النّظر في تفاصيلها على ضوء شمعة تضعها في شمعدان على حائط جانبي
وتبدأ بترتيل تعويذتها، تتأمّل في وجهها ، عيناها اللّتان خبا بريقهما و غارتا في محجرين برزا على جانبي وجهها، أنفها المدبّب وقد استطالَ وتهدّلت أرنبته حتى لاقت الشّفة العليا، الشّفتان اللّتان هرب الدّم منهما وفقدتا اكتنازهما وأصبحتا بالكاد تطبقان على بعضهما، الوجنتان اللّتان حفر بهما الزّمن بئرين عميقين غار فيهما الماء، ترفع غطاءً عن رأسها لتنفلت منه كومة قش لكنّها
بيضاء غادرها الصّفار ليستقر في وجهها ، تتحسّس بيديها المعروقتين عنقاً كانت تحسبه فيما مضى مرمراً لن يفقد ملوسته أبداً ، لكنّه خانها وتحوّل حصيراً منسوجاً بخطوط متداخلة ، تبدأ بفك أعلى ثوبها، وتبدأ ركناً آخر من أركان صلاتها اليوميّة تلك، تُسقِط ثوبها أرضاً وتقف منتصبة، كل شيء فيها تهدّل ، محراث السّنين مرّ على أرض طينتها مرّات عديدة، وأجاد الحرث بخطوط طولانية متوازية وعديدة ، لكنّ الحصاد عقيم ، أرض بور تصحّرت عبر السنين وجفّ ماؤها وتملّحت من أمطار دموعها ولا سبيل للاستصلاح ، تهوي أرضاً لتبدأ الركن الثّالث، تسجد على ثوبها وتغرقه بما تبقّى عندها من ماء العيون،
كل شيء فيها شاخ وهرم إلا تلك المضغة المقيمة بين جنبات قفصها الصدريّ ، ما زال يخفق بالحياة ، ومازال سكناً ودار إقامة له، هذا العملاق الذي لم يدرِ يوماً أنه يملك سكناً لا يكاد يغادره، وأنّها درست لأجله تاريخ أجداده الذي يمتد لعصور مضت وعاشت بين ظهرانيهم علّه يبصرها يوماً وهو يدخل إلى ذلك العالم مفاخراً بقصائده ليجلس إلى جانب جدّته ملكة بلاده في غابر العصور.
تقوم تمشي الهوينى حتى تصل إلى طاولة مكتب صغيرة ، تمسك القلم بيدها وتنفض لواعجها على ورقة مصفرّة ، برسالة لن تصل.
نار شوق تحرق أوراقها ، ونار غيرة تحرق قلبها، وتكتب قصصاً عن حضارات تستعرض فيها ملكات من كلّ الأزمان، تستنجد بهم وتشكو إليهم جحود من سكن قلبها دون أن يدري، تكتب بهذيان عاشقة، وشعوذة حاسدة، أنّ حورية بحر استحوذت على قلبه وأسرته، تصفها بالأفعى حيناً وبالفأرة حيناً آخر، تصدِّق هواجسها، مطلقةً العنان لخيالها المريض، تتوعّدها بالخسران المبين، وتتوعّده بشرٍّ مستطير، تصوّره بصور شتّى، مرّة مستعطفاً ومسترحماً، ومرة آيباً يرجو الوصال، ومرة معرضاً عنها، جاحداً لمشاعرها الفيّاضة، تتّهمه بأنّه طفل لاهٍ ، ومراهقٍ معربد، وشيخ زاهد ، تنهي رسائلها بالتّحضير لجنازة ، تنبش القبور بحثاً عن رفات أُمّها، تنقل الرّفاتَ من مقبرة إلى أخرى لتنتهي بها في مسقط رأسها في بلاد بعيدة جداً ، تحفر هناك قبراً، تضع
الرّفات فيه، وتستلقي فوقه، تنتظر موتاً لا يأتي ...
|