لو كان الحسين ـ وما كان ينبغي أن يكون ـ في العصر الجاهلي لكان رثاؤه ظاهرا في المعلّقات..ولتخطّفت ذكراه الشعراء ورأوا في مقتله ما يلهم القصيد..وإذن لكانت الحسينيات مذهبا في شعرهم يفوق ما بين أيديهم..ولكن قدر الحسين أن يكون موضوعا للشعر في العصور المتأخرة، الأموي والعباسي وما تلاهما.. بيد أنّ روح هذا الشعر ستلاحق الحسين سببا ونسبا.. لقد كان لا بدّ أن نقف على لون آخر من الشعراء..لا بدّ أن نقف عند شعر المرأة..فلقد رثيناه رثاء وحزنّ عليه حزنا..سنقف على عينة منهن ونحكي عن زوجته الشاعرة "الرباب".. لكن قبل أن نقف على شعرها وحزنها لا بدّ أن نعرف القيمة الشعرية للرباب..نعود قليلا إلى الوراء..حصل أنّ العصر الجاهلي المتأخر عرف شاعرا لم يكن له مثيل من بين كل الشعراء الذين عاصروه..إنه امرؤ القيس، الشاعر الأمير..قال عنه لبيد:: أشعر الناس ذو القروح..وكان ذو القروح من ألقابه كما الملك الضليل..قال عنه جرير: اتخذ الخبيث الشعر نعلين..أحصى العرب أشعر شعرائهم فقالوا هم: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى..ثم كان أغلبهم على أن أشعر الأربعة هو امرؤ القيس..فكانت قصائده في أولى المعلّقات..وفيها نقرأ مطلع قصيدته الرائعة:
قفا نبمي من ذكرى حبيب ومنزل +++ بسقط اللوا بين الدخول فحومل
هو أشعرهم لا منازع..يكفي أنّ القوم لما أكثروا يوما في الحديث عن الشعراء في حضرة إمام نهح البلاغة علي بن أبي طالب، سألهم عن الأشعر منهم فذهبوا مذهبا خاطئا في التفضيل فقال لهم بعد أن سألوه عمن يكون الأشعر، فقال علي بن أبي طالب: إن يكن فالذي لم يقل عن رغبة و لا رهبة ، قيل من هو يا أمير المؤمنين قال: هو الملك الضليل ذو القروح قيل إمرؤ القيس... أسلم امرؤ القيس مع عشيرته.. واختلط دمه بالهاشميين من خلال مصاهرته لعلي بن أبي طالب فيما بعد..لقد كانت مصاهرة عجيبة..كان لامرئ القيس ثلاث بنات زوجهن ثلاثتهن لأهل الكساء..فكانوا لباسا لهن وكنّ لباسا لهم..زوّج حياة لعلي بن ابي طالب وسلمى للحسن والرباب للحسين..مصاهرة مضاعفة، مما يعني أنّ بناته كنّ من سيدات معسكر الحسين في كربلاء..ويكفي أنّه جدّ سكينة بنت الحسين.. مات الأب امرئ القيس بعد هجرة وترحال وحياة مليئة بالأحداث..فتوفّي بالجذري بأنقرة..وكانت بقيته مع الحسين..أليس يتضح ما قلناه لو أنّ الحسين عاصر العصر الجاهلي لكان رثاؤه في المعلّقات؟ ستتولى بنته الرباب هذه المهمة وسترثي الحسين..حفيذة امرؤ القيس وزوجه الحسين وأم سكينة وعبد الله الرضيع..
منذ قتل الحسين والرباب لم يهدأ لها بال..لقد ضاقت بها الدنيا وحزنت على الحسين وبكته بالليل والنهار..ولم يظلها سقف، وحين خطبها الأشراف رفضت واكتفت بذكرى الحسين..أقامت مأتما في الشام للحسين من النساء فبكيناه حتى جفت دموعهن..وحين علمت من بعض جارياتها أنذ السويق يسيل الدمع طلبته وقالت: إنما نريد ان نقوى على البكاء.. أنجبت الرباب للحسين سكينة وكذا عبد الله الرضيع الذي رماه كرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه.. فحقّ لها أن تبكي..فلقد ترمّلت وتيتّم أبناؤها وذبح رضيعها..بقيت بعد الحسين حزينة..وكما في ترجمتها فقد عاشت بعده لم يظلها سقف حتى بليت وماتت كمدا...
هنا الشاعر هي المرأة..هي امرأة الذبيح وأم الذبيح..وابنة من اتخذ الشعر نعلين كما قال لبيد..أي مشاعر تلك وأي حزن يا ترى؟؟
أما أنا فسأنقله والحزن بات قاتلي..أقرؤ قصيدة الرباب وهي فعلا كلمات لها رنين كالرباب..هو الشعر هنا صادق..والنائحة عزّاها الحسين قبل أن يقضي..في حضرة زينب الكبرى..تقول الرباب:
إن الذي كان نوراً يستضاء به +++ في كربلاء قتيل غير مدفونِ
سبط النبي جزاك الله صالحة +++ عنا وجنّبتَ خسران الموازين
حين انطفأ نور الحسين..وهو بالفعل مصباح الهدى وسفينة النجاة، ماذا يبقى لأهل الوفاء إن كنّا أمهات أولاده؟..فجعت الرباب ويا للفجيعة..من بقي للرباب وقد فاضت نفس الحسين الذي كان يلفّ هذا الجمع المقدّس:
قد كنت لي جبلاً صلداً ألوذ به +++ وكنت تصحبنا بالرحم والدين
بقي بين يديها عيال أيتام..لا يعرفون أين يذهبون..وأين يا ترى يذهبون وقد قتل من كانوا في كنفه يأمنون؟ وأين يذهبون في أمّة استصعبت نصرة الحسين في حياته ولم تفعل أكثر من البكاء والتندم بعد ان قضى صريعا بين النواويس وكربلاء..
َمن لليتامى ومن للسائلين ومن +++ يغني وياوي اليه كل مسكين
تيتّم بقية آل البيت وشرّدوا..وبقي آل سفيان في قصور ويضرب لهم الفصطاط..للهاشمين النحر ولآل سفيان الديباج..ولقد حاول قوم من الأشراف أن يطلبوا يد الرباب إكراما لها فأبت أن يكون لها حموا بعد رسول الله..
والله لا أبتغي صهراً بصهركم +++ حتى أغيّب بين اللحد والطين
وكذلك كان..ولم تمض إلاّ سنة قبل أن تموت كمدا..أي وفاء هذا.. وأي روعة في الرثاء حين ينطلق من قلب صادق في الحزن والألم.. لقد مسكت برأس الحسين وهي تبكي وتنادي:
واحسيناً فلا نسيت حسيناً +++ أقصدته أسنة الأعداءِ
غادروه بكربلاء صريعاً +++ لا سقى الله جانبي كربلاء
لم تنس الرباب حسينا وما كان ينبغي لها أن تنسى...ونحن على ملّتها أبدا لن ننسى حسينا ولا ينبغي لنا أن ننسى..
: 28/10/2015 |