المقدمة :
____
الجدير بالذكر ان ماورد عن المذاهب الاسلامية التاريخية لايعني قطعا نكران الخدمات العظيمة لها ، أو إلغاء إجتهاداتها بالمرة ، بل بالعكس ينبغي الاستفادة والاسترشاد من ذلك التراث الفقهي الاجتهادي ، لكن بما يتوافق ومصالح الأمة ومقاصدها ومنافعها اليوم ، وبما يتلاءم أيضا مع مقتضيات العصر ومتغيراته وأعرافه . ذلك ان اجتهادات تلكم المدارس الفقهية وإستنباطاتها قد لاتتفق بالضرورة مع مقتضيات العصر الذي نعيشه ونعايشه بكل تغيراته السريعة وتطوراته الهائلة على المستويات كافة ! .
وبالمقابل فإن اجتهادات عصرنا قد لاتتفق بالضرورة مع أوضاع ومقتضيات العصر الذي يلينا فيلينا ، لأنه من المعلوم ان كل عصر له خصائصه ومقتضياته وأعرافه ، ومثاله الامام الشافعي الذي كان في العراق له فتاوى واجتهادات فقهية وفق البيئة العراقية وأعرافها ، ولما انتقل الى مصر فرأى بيئة وظروفا وأعرافا مغايرة إضطر الى تقنين اجتهادات أخرى وفق مايلائم مصر كشعب وبيئة وأعراف أخرى . لذا يطلق على فقه الشافعي في العراق بالفقه القديم ، وبفقهه في مصر بالفقه الجديد ، لأنه بحسب قواعد الشريعة الاسلامية ومقاصدها فإن المصلحة الانسانية هي أساس التشريع وقاعدته التي ينبني عليها الاجتهاد والفتاوى والاستنباطات والتقنينات الشرعية ! .
ثم ان الكثير من الأحكام التي لاتدخل ضمن دائرة الثوابت والأصول القطعية كالايمانيات والأركان الثابتة ، هي بالحقيقة قابلة للأخذ والرد ، وللاجتهاد والنظر فيها ، وقراءتها قراءة جديدة بحسب ضرورات العصر ومستجداته . أي ان عصرنا غير ملزم شرعيا وفقهيا بتقليد آراء واجتهادات العصور التي سبقتنا ، لأن ذلك يعد تقليدا ، حيث الاسلام نهى عن التقليد والسكون في منطقة واحدة . وعليه فإن آيات الأحكام في القرآن هي التي ترتبط بتكليف الناس من ناحيتي الفعل والترك . وذلك على دلالة الأمر والنهي وقاعدتها ، مضافا فإنها تتعلق بقضايا الحلال والحرام المعروفة ، ثم يضاف اليها توابعها من بقية الأحكام المعروفة كالفرض والواجب والسنة ومااليها .
وكما هو معلوم فإن مصادر التشريع في الاسلام هي :
1-/ القرآن الكريم ، حيث هو أصل الديانة والشريعة والمعرفة الاسلامية وأساسها . والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وفيه المحكم والمتشابه ، الخاص والعام ، المقيد والمطلق . علاوة الى أسباب النزول وغيرها من علوم القرآن المباركة . وقد فسر رسول الله محمد – عليه الصلاة والسلام – القرآن ، وانه عليه السلام أوضح ماأشكل فهمه ، وصعب تفسيره وحكمه ، أو أحكامه لصحابته الكرام .
2-/ السنة النبوية الشريفة : أي سنة سيدي رسول الله محمد – ص – التي صحّت وثبتت عنه من نواحي التفسير والأحاديث والخطب والأوامر والنواهي والمستحبات والمكروهات . وما سكت عنه الكتاب والسنة فهو رحمة ؛ أي انه يقع مباشرة في اطار الاجتهاد العقلي للعلماء المجتهدين .
على هذا المنوال فالكتاب والسنة هما المرجعان الرئيسيان والمصدران الأساسيان لفهم الاسلام ومعرفته من حيث الشريعة والديانة والأصول والأحكام والتعاليم الكلية والعامة ، وبخاصة تلكم الأحكام التي تتعلق بالايمانيات والعقائد . مع العلم ان السنة النبوية قد فصلت وشرحت الكثير من آيات الأحكام الكلية ، وانها بينت تفاصيلها وأوضحت مراميها وحدودها كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها .
وبعد الكناب والسنة مباشرة يأتي دور ثلاثة أصول للتشريع هي :
1-/ العقل . 2-/ الفطرة . 3-/ العرف . ولأئمة المدارس والمذاهب الفقهية الاسلامية المشهورة كالشافعية ، الحنفية ، المالكية ، الحنبلية ، الإباضية ، الظاهرية ، الزيدية والشيعة الجعفرية الاثناعشرية تباين فيما بينهم في موضوع أصول التشريع ، وفي موضوع أصول الاستنباط الشرعية . مع ان المدارس الفقهية الاجتهادية المذكورة تتفق كليا على الأصل الأول وهو القرآن الكريم . وكذلك فإنها تتفق ، لكن بدرجات متفاوتة على الأصل الثاني وهو السنة النبوية . ذلك ان الشيعة – مثلا – لهم تعريف خاص للسنة غير تعريف أهل السنة والجماعة لها ، مضافا الاختلاف في مسائل الاجماع وتعاريفه .
وحول قواعد الاستقراء وأسس الاستنتاج وأصول الاستنباط هناك تباين – كما أشير آنفا – بين المدارس الفقهية والمذهبية السالفة الذكر . وهذا الاختلاف يشمل مسائل الاجماع والقياس والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع وفتحها والعقل كما عند الشيعة الامامية . لهذا أعتقد إن كثرة إختلاف المدارس المذهبية الفقهية حول أصول وكيفية الاستنباط وقواعد الاجتهاد وحدودها ومدياتها كانت ومازالت لها الأضرار والآثار السلبية على المجتمعات المسلمة ، وعلى وحدتها وكلمتها وتماسكها المجتمعي ، وعلى مصائرها من جميع النواحي .
وبرأيي قد يمكن تدارك هذا الأمر الحساس والبالغ الأهمية ، أو حل هذه الإشكالية الكبيرة ، وحل هذه الاختلافات والخلافات ، أو على الأقل التقريب بينها من خلال جعل { العقل } قاعدة أساسية ، أو كمظلة مرجعية للاستنباط والتنظير في الفروع والأمور العامة والاجتهادات الاستنباطية كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها . بالحقيقة ان القياس – كما هو معروف – وما شابه مما ذكر هو فرع من إعمال العقل التفكيرية . ذلك انه لايمكن قياس شيء بشيء إلاّ من خلال العقل ، لذا لاشك ان العقل له في الاسلام مزية كبيرة ومنزلة كريمة عظيمة ! .
واذا ماحصل تطور مصيري كهذا ؛ أي تم الاتفاق لجعل العقل أساسا للتنظير وقاعدة للاجتهاد والاستنباط في الاحكام الفقهية العامة ، وهو حقا كذلك فسينتج عنه تقريب وتقارب ، وربما توحّد وتوحيد كبير بين المذاهب الاجتهادية الاسلامية المعروفة ، أو غالبيتها على أقل تقدير ، وحينها ستزول – بعون الله تعالى – الكثير من العقبات والعوائق والموانع عن طريق وحدة الأمة وتقدمها وتطورها على كل المستويات .
|