استدراكا لما أكّدنا عليه في موضوع إشكالية الحداثة في الفكر العربي والإسلامي فإنّني أجد مفتاح العلاج في التمييز بين حداثة السادة وحداثة العبيد..إنّ هذا المفتاح يضعنا أمام ظواهر تناقضية إزاء إشكالية الحداثة التي باتت هي العنوان الأيديولوجي لقضية التّقدم..لقد أصبح التقدم إشكالية فلسفية وليس مسألة إجرائية..كما أصبح إشكالية أيديولوجية وليس مسألة تحدي واستجابة..إنّ اختزال فكرة التقدم في الحداثة بالتباساتها الأيديولوجية جعل فكرة التقدم تعاني من الكثير من التشويش الأيديولوجي المعطّل لعملية الاستنهاض..حداثة العبيد هي مشروع تبعي لا يسائل المركز الحداثي حول مشاريعه ولا حول مفاهيمه ولا حول برنامجه..هو يتلقّف تلك المفاهيم ويحولها إلى وصل تجاري محلّي أو عنصر للمزايدة والتغليط وإلى حجاج فارغ..وفي جلّ ما تراءى لنا من مظاهر حداثة العبيد أنّها تحولّت إلى فزّاعة لإدانة القيم المحلّية بما فيها تلك القيم التي تتوسّلها ما بعد الحداثة وترى أنّ وجودها خارج المركز القاهر هو من بركات الهامش..في الهامش يوجد ما لم يستطع المركز ان يقضي عليه أو يحرفه أو يدجنه..مجال خصب وبكر لا سيما في مجال القيم التي تواجه حتمية الباب المسدود في عصر غير موجود بقدر ما ثمة عصور تتصارع داخل العصر الواحد، بما فيها عصر ما بعد الحداثة الواعد..قيمة ما بعد الحداثة على لا واقعية الكثير من جنوحها هو أنها قضمت تبسيطات الحداثة ومسلّماتها التاريخانية..ما بعد الحداثة تحررك من ثقل البنيات الجاثمة على العقول..من أساطير الحداثة الأخيرة..من قاطيغورياس المعنى واستبداد الطبقة السطحية للحقيقة..تحرر من الثنائيات المغالطة لصالح الكثرات التي تحاكي الكثرة الكونية..تحرير من رهاب الجنون والاعتراف بآخر العقل..تحرير من أمبراطوريا الخطاب وإطلاق العنان للتأويل..تأويل التاريخ والنصوص والبنى والكائن والعلائق..إن ما بعد الحداثة تحرر من الحداثة ومعانقة لكل إمكانيات العصور وهدم للأساطير الجديدة التي يتعبد بها بدائيونا المعاصرون..إنها حالة تمرّد على الانحطاط الحضاري الذي تسلك إليه حضارتنا بتقنية متقدّمة جدّا..إنه شكل من الانحطاط أسميه انحطاط الحداثة بأدوات الحداثة..بينما الدعوة اليوم قائمة لكي لا نمنح شهادة حسن السيرة لحداثة تنتهك العقل وتكاد تختزل مهمّتها في زمن الانحطاط في مشروع غريزة لم ينجز..وعليه بات من الضروري الحديث عن الحداثة وأساطيرها من باب الماضي..والوعد بحداثة جديدة متصالحة مع أجمل ما نطقت به سائر العصور..حداثة تكسر الطوق الممدود حول العقل والمعنى..حداثة أخرى تتصالح مع القيم التي تزعج التّفاهة وتربك العبثية وتعيد المعنى الأعمق للإنسان وأبعاده التي محقها القول التناقضي للحداثة..إنها ما بعد حداثة تشكل الثورة المشروعة على حداثة أخرجتنا من العصور الوسطى لتعيدنا بعد أربعة قرون من الاستنزاف للعقل والمعنى والبيئة لما قبل كلذ العصور همجية وقتلا للإنسان/ادريس هاني 21/7/2015
|