سؤال الأنسنة ككل الأسئلة المستنزفة اليوم يتعرّض لمكابدة الأيديولوجيا وتشويشها..ولذا تعيّن أن تخضع مفاهيمنا دائما لعملية اختبار وتنمية مستدامة أيضا..الأنسنة هي مبدأ عقلائي لا شيء يملك الوقوف ضدّه أو مصادرته لأنّه لا يتوقّف على جعل جاعل..وحينما خلق الله الإنسان كان ذلك هو العنوان المبدئي لرحلته في الزمان بحثا عن كمالات تنمي سنخيته كإنسان. كل ما جاء واستنبت من تعاليم كان هدفه تأويل إنسانية الإنسان وتحريض الإنسان لبلوغ كمالاته. وكما أخفق الإنسان في تحقيق ذلك سواء بالتعاليم الدينية أو الدنيوية فذلك مردّه إلى الجهل والحرية..بالجهل يتراجع الكائن عن إنسانيته، وبالحرية يختار حتى الأسوأ من بين مصائره الممكنة. الحرية نفسها حينما لا تتأنسن تصبح خطرا على الإنسان. يرفع الجهل بالعلم وتهذّب الحرية بالأنسنة. إنّ الجهل لا يرفع بالاستبداد والتوحّش، لأن الاستبداد والتوحش هما أصلا فرعان للجهل. بل وكما ذكر الكواكبي في طبائع الاستبداد: أن الاستبداد يذهب الراحة الفكرية..وكذلك لا ترفع الحرية اللاّإنسانية بالاستبداد، لأنّ هذا الشكل من الحرية الخاطئ هو في حدّ ذاته متولّد عن الاستبداد العاري وشكل من أشكال ردود الفعل عليه.. والحل، هو أنّ تهذيب الحرية لا يتم إلا بمزيد من الحرية المتترسة بالعلم والتربية والأنسنة..إنّ تنمية الضمير الإنساني وإعداد المناخ المساعد لذلك هو المخرج الممكن من آثار وطبائع التوحش..الأنسنة إذن هي إحساس ووجدان قبل أن تصبح فكرة وأيديولوجيا..ولا شيئ يوقف هدير الأيديولوجيا وفسادها أكثر من إعادة تشخيص المفاهيم على أساس الوجدان..الوجدان قاهر للأيديولوجيا..وبما أنّ الأنسنة استنزفت بسبب أدلجتها كان لا بدّ من قلب المعادلة لأنسنة الأيديولوجيا نفسها..ترعى الأيديولوجيا دائما على طبائع توحّشنا فتزداد شططا وإرهابا..وإذا لم يعاد تقييمها وتقويمها خرجت عن الطوق وعاثت فسادا في النظر والعمل..تعود الأيديولوجيا لتزاحم المعرفة في عملية تشكيل العالم وتمثّله..بل غالبا ما تسعى الأيديولوجيا إلى انتحال شخصية الإبستيمولوجيا فتحاول إعادة تشكيل العالم عبر خداعها..في مثل هذه الحالة لا مخرج غير القبض على الحدّ الأدنى من الأنسنة باعتبارها معيار نجاح التمثل الإنساني للأفكار والأديان..إنّ معيار انحراف الأديان نفسه يظهر من خلال قياس منسوب الأنسنة فيها..فالأديان التي تنتج خطاب العنف والاستهتار بالقيم والأحاسيس الإنسانية هي ديان تتعرض للقرصنة من قبل كهنة لديهم مشكلات مع الإنسان وقيمه..الثقافة التي تحوّل العلم إلى توحش أو الأديان إلى عنف هي ثقافة واحدة..مجتمعاتنا تفتقد إلى الثقافة الإنسانية وكذا دولنا وأحزابنا..هناك التفاف على مفهوم الأنسة وتوحّش ضارب الأطناب في ذهنيتنا..إنّ مواجهة إدارة التوحش لا تتمّ إلاّ بإدارة الأنسنة من أي زاوية دخلنا إلى الأنسنة . |