ترعرعنا في مدينة سامراء المنورة بعبق الروح والفكر والثقافة والسحر والجمال , والمتناوسة على أنغام القراءات الفياضة النفحات والتهدجات الصداحة السامية , النابعة من قلوب نقية منغمسة بسلاف المحبة والإنتماء الأصيل للعروبة وجوهر اللغة والدين.
المدينة المتوجة بالحضارة , والمسافرة في آفاق الإنسانية منذ مبتدأ خطوات البشرية , وأول تعبيراتها الفكرية والإبداعية والفنية , التي حفظها لنا "تل الصوان".
مدينة كانت ذات حسن ونكهة وأفياض روعة وسرور , وبهجة تتماوج على الشطآن , وتتلألأ في النفوس والمشاعر والوجدان.
وفيها كنا صبية نتمتع بالموسيقى والأدب والفن , والثقافة والشعر والمعارف العالمية في مكتبتها التي أنشِئَت مع تأسيس دولة العراق في الربع الأول من القرن العشرين.
وكنا نجتمع في المساء لنداعب أحلامنا , ونباري أذهاننا , ونطلق ما فينا من الطاقات والقدرات , التي تميز كل واحد منا , ومن بيننا الذي يمتعنا بصوته الشجي الرائع , وهو ينطلق مصدحا بالمقامات العراقية , وكان أخاذا ومؤثرا ورائعا , وبقي صداه في مخيلتي , حتى جعلني أتصور أن لا قارئ مقام يتفوق عليه , فكأنه وُلد والمقامات مزروعة فيه , فلم يدرسها أو يتعلمها على يد قارئ , وإنما هي موهبة كامنة فيه وتفتقت كالبركان.
ودارت الأيام وفعلت فينا الحروب والحصارات فعلها , فتفرقنا وتشتتنا في بلاد الغرب أوطاني , وقبل بضعة أشهر تواصلتُ مع صاحب النغم المكتوم , فأيقظ أيام الصبا , وأعاد مياه الحياة الإبداعية إلى مجاريها , وكنت متشوقا لسماع المقام العراقي بصوته المنحوت في ذاكرتي, وإذا به يصدح شاديا عبر الهاتف , فألهب روحي وأجج مشاعري وأشعرني بالحياة التي كنا نتطعم بها ونتغرغر بهنائها , والبراءة والصفاء يحفان بنا.
الإنسان الرائع الموهوب العذب الروح , لا يزال بذات الصوت الجميل محافظا على روح الموهبة التي حباه الله بها , لكنه تمنّع عن البوح بها وإطلاقها , لأنه من عائلة متدينة , تأبى عليه الغناء , وتوصيه بأن لا يغني أبدا.
والموهبة ليست ملكا للشخص أو للعائلة , إنها رسالة الحياة للحياة!!
لكن صاحب النغم المكتوم لقوة موهبته وفوران طاقاتها إتخذت طريقا آخر , فبرع بالرسم والسيراميك , حتى قدم لوحات ذات قيمة فنية عالية , وقطع سيراميكية رائعة الصياغة والتقنية والأصالة , التي تحمل روح المدينة التي نشأنا في مواطنها الغنّاء.
تحية لصديق الصبا , الذي أعادني للرسم بعد أن سرقه الطب والقلم مني , وأبهجني بعطاءاته الفنية , ذات الحضور العالمي والإنساني السامق , كملوية وجودنا الروحي والفكري الشماء!!