بعد أن غص الملعب بأكثر من 50 الف متفرج جاءوا لمشاهدة واحدة من أكثر مباريات الدوري اليوغسلافي اثارة بين ناديي ناغورني كاراباخ وهايدوك سبليت, تفاجأ المتفرجون بمحافظ مدينة بلغراد وهو ينزل الى أرض الملعب ليعلن وبقلب يعتصره الألم عن وفاة جوزيف تيتو مؤسس يوغسلافيا الأتحادية.. تعالت صرخات الجمهور وعلا نياحهم وما أن فاقوا من هول الصدمة حتى وقف الجميع ليؤدوا بصوت واحد النشيد الوطني اليوغسلافي معلنين أنهم سيسيرون على خطى قائدهم العظيم بأعتباره رمزاً للوحدة والتعايش السلمي.
لكن الأمر لم يكن كما رددته الجماهير, فلم يمض الا وقت قصير حتى دارت رحى الطائفية لتسحق بفكيها مئات الالاف من اليوغسلاف بمختلف طوائفهم ولتدخل البلاد في اتون حروب اهلية وأنقسامات ومقابر جماعية طالت عشرات الالاف من المسلمين والكروات وتهجير لازالت مرارته الى يومنا هذا.
تيتو تعامل بقوة النار والحديد ليحد من اثار الطائفية المقيتة ولكن سياسته كانت محدودة الصلاحية أنتهت بوفاته ولم يكن لها من اثر بعد رحيله بل كان لها الأثر السلبي تماماً بعد رحيله, والسبب ببساطة أن تيتو طالما كان يؤكد على أذابة الطائفة داخل بوتقة الوطن فلا يوجد شيء أسمه الصرب أو البوسنيين أو الكروات بل يوجد دائما أنتماء واحد وهي يوغسلافيا العظمى, بمعنى اخر ان الحديث عن الطائفة والانتماء محظور تماماً في ظل يوغسلافيا الأتحادية..لكن للأسف هذه السياسة أثبتت عدم جدواها أو على الأقل أن نتائجها قصيرة الأمد بل أنها قد أثمرت عن نتائج عكسية على المدى البعيد.
أذا أردنا أن نتصدى للطائفية علينا أن نعترف أولا بأننا طوائف متعددة ولدينا أراءنا التي نختلف فيها مع الاخرين, نقرأ التاريخ ونفهمه بطريقة تختلف عن فهم الاخرين, لدينا طقوسنا, رموزنا, شعائرنا, عاداتنا التي نختلف فيها مع الاخرين وهم لهم ما يختلفون فيه معنا وهذا بالتأكيد لايعني بأية حال بأننا طائفيون لكننا طوائف, فمن حق كل البشر أن ينتموا وان يصرحوا بهذا الأنتماء, ومن حقهم أن يعملوا لتحسين أحوال طائفتهم أو المنطقة التي يعيشون فيها من دون الأضرار بحق الاخرين. أنا لا أخجل حين أقول بأنني شيعي وأنني أعتقد بأن علي أولى بالخلافة من ابي بكر, وأن معاوية خرج على أمام عصره وسيحاسب على ذلك, وأن زوجة الرسول خرجت على أمام عصرها وستحاسب على ذلك, وأن يزيد شارب الخمر قتل سبط رسول الله وسيحاسب على ذلك, ولكني لا أسمح بأن يستباح دم أنسان يختلف معي في هذه المعتقدات, وبالمقابل من حق الاخر أن يعتقد ان ليس من أحد أولى بالخلافة خير من ابي بكر, وأن معاوية هو من العشرة المبشرين بالجنة, وأن زوجة الرسول أجتهدت فأخطأت, ويزيد كان كذلك في قتله الحسين فنالا أجراً واحداً بدلاً من أن ينالا أجرين, ولكن على الاخر أن لايسمح بأن يستباح دمي لأني أعتقدت خلاف ما يعتقد..في نفس الوقت ليس من واجبنا أن نحاول أقناع الاخرين بما نعتقد به ولكن يتحتم علينا ان لا نتردد في البوح بأعتقاداتنا, فالتجارب أثبتت أن كتمان مانعتقد به سيعرقل مساعي الأنفتاح على الاخر لأنه يدرك تماماً أنك تنتمي الى غير طائفته وهو بالتالي يعلم يقيناً بما تحتويه كتب طائفتك من أفكار ومعتقدات تتقاطع مع أفكاره ومعتقداته.. أذاً من حقي أن أعتقد بما شئت وأن أبوح بذلك والاخر كذلك يملك نفس هذا الحق ولكن ليس من حقي أن أؤمن بأفكار من يستبيح دماء الاخرين أياً كان السبب أو الدافع وهو لايملك هذا الحق أيضاً .. أن نتكلم عن ماجرى في التأريخ ليس بعيب, أن نقول بأننا طوائف مختلفة بالتأكيد ليس بعيب, أن نظهر معتقداتنا أياً كانت هي الأخرى ليست بعيب, لكن العيب كل العيب هو نجعل ذلك سبباً لأراقة دمائنا ودماء شركائنا في الوطن |