يعيش العرب معضلة إضطراب المفاهيم وعدم وضوح المسميات , بسبب غياب دور المفكرين والمثقفين في حركة المجتمع , وفقدانهم للقدرات الإدراكية اللازمة لصياغة النظريات الوطنية والحضارية المتفقة مع جوهر بلدانهم , وطبيعة تكويناتها المتنوعة الأطياف الجغرافية والتأريخية والحضارية والبشرية.
ولهذا فأن الجهل التأريخي والحضاري والواقعي هو السائد , ويترتب عليه وجود سائب سائل القوام يتخذ شكل الوعاء الذي يوضع فيه , مما يجعله بلا ملامح ولا هوية أو مناهج حياة وصيرورة إنسانية ذات قيمة ودور معاصر.
إن غياب المفاهيم الواضحة المعاني والدلالات أو المضطربة , يساهم في صياغة التفاعلات السلبية المشوشة للرؤى والمعززة للمخاوف والتوجسات من الآتيات , وتجعل الشك سلطان وديدن ما يتحقق من تواصلات وما يترتب عليها من نتائج خسران.
فكأن الأزمة الحقيقية الجوهرية العاصفة في الحياة العربية هي مشكلة مفاهيم حياة , وعندما تغيب هذه المفاهيم أو تتشوه فأنها تنعكس على الواقع اليومي , الذي تتوالد فيه وتعيش وتؤسس لمناهج تفاعلات.
والحضارات كافة لم تنطلق إلا من مفاهيم محددة ذات مشاريع توصلها لأهدافها المبينة في مفاهيمها , والتي يمضي على هداها حَملتها.
فالحضارة الإسلامية كانت ذات مفاهيم راسخة يتم التعبير عنها وفقا لمعطيات عصرها ومكانها , وبهذا التوافق الإدراكي أسست لحضارات متنوعة في أصقاع الدنيا المختلفة.
وفي أيامنا الحاضرة تجدنا في مآزق الدعوات المشوِّهة للمفاهيم والمُبلدة للمدارك , والمُساهمة في تأجيج العواطف والإنفعالات , التي تأخذها إلى جحيمات سلوكية لا تُرتجى منها قيمة حضارية أو إنسانية , مما يصنع واقعا غثيانيا مهلكا للجميع.
وعليه فلا بد من مراجعة المفاهيم , والإستيقاظ من نومة العدم والضياع , والتفاعل مع التحديات بمفاهيم تستوعبها وتتمكن من إبتكار السبل الكفيلة بتجاوزها , والخروج من أصفاد ومحن ردود الأفعال , إلى منطلقات المبادرة والإقدام.
ولا يتحقق هذا الوعي النهضوي الحضاري إلا بتفاعل عقول الأمة المدركة الرشيدة المقتدرة , وعملها الجاد والمجتهد في تحديد المفاهيم وتعريفها بوضوح , والإرتقاء بالمعارف الإجتماعية والإنسانية إلى مصاف العصر وما بعده , وما تتطلبه الأجيال من ميادين تستوعب تطلعاتها وما يتوقد في خيالها من أحلام منيرة.
فهل سيتمكن العرب من إعمال العقول ولجم العواطف في عصرٍ تصدّح فيه المَدارِك بالإبداع المطلق؟!! |