الكوت مدينة جميلة بناسها الذين عاشوا بين أحضانها لمئات السنين متحابين متآلفين يعرف بعضهم بعضا ويتزاورون فيما بينهم في الأفراح والأتراح تربطهم أطيب وشائج المودة والتعاطف. مناطقها وادعة تفتح ذراعيها للضيف من الشرقية ألى حي المشروع ألى منطقة سيد نور ألى الجعفرية وداموك والهورة ودور المعلمين وحي الكفاءات والزهراء ألى الكرامة والفلاحية والعزة على الجانب الآخر من نهردجلة الخير والعطاء ومناطق أخرى معروفة بنبل أهلها وشهامتهم وبعدهم عن كل روح طائفية وعنصرية عاشوا جميعا كعائلة واحدة يتقاسمون رغيف الخبز في السراء والضراء . وتشهد جوامعها وحسينياتها المساعدات المالية التي يتبرع بها أبناء المدينة سرا للعوائل الفقيرة والمتعففة وخاصة أيام الحصارحيث تم قطع الحصة التموينية من قبل النظام الصدامي عن العوائل المعدمة التي هرب أحد أبنائها من الحروب الدموية التي شنها الطاغية المقبوروالتي كانت قيمة الصاروخ فيها عشرة ملايين دولار . والكوت تعني (ما يبنى لجماعة من الفلاحين ليكون مأوى لهم ومسكنا .)وقد ذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه (حرب الخليج )ص64 بأنها تعني (الحصن أو المراقبة والدفاع ) وهي معروفة بسدتها المشهورة التي بناها الانكليز عام 1939م . يحضن هذه المدينة الواقعة على الضفة اليسرى منه دجلة الخير والعطاء من ثلاثة جهات ويحولها ألى شبه جزيرة وتقع على بعد 180كم عن العاصمة بغداد ويربو سكانها حاليا على النصف مليون نسمة . هذه المدينة الحبيبة لها تأريخ مشرف في مواجهة الاحتلال العثماني ثم البريطاني ومقبرة الانكليز والأتراك تشهدان على الظروف العصيبة التي مرت بها المدينة في الحرب العالمية الأولى حين حوصرت لمدة (147) يوما وكان ذلك الحصار أبشع وأطول حصار في التأريخ عانى منها سكان هذه المدينة المسالمة المصائب والأهوال التي يشيب لهولها الولدان وقد دفع المئات من أبنائها أرواحهم فداء من أجل تربة العراق الطاهرة. تعرضت لظلم النظام الصدامي الذي لم تسلم منه بقعة من أرض العراق واستشهد من أبنائها الكثير في السجون الصدامية المظلمة وتشهد بدايات السبعينات عمليات التهجير الكبرى التي قام بها النظام ألصدامي للعراقيين الأصلاء من (الكرد الفيليين) في عملية إجرامية شوفينية سوداء كانت أشبه بالسبي في القرون الوسطى حيث أخرجت مئات العوائل خلال ساعات عنوة من بيوتها في عز الشتاء القارص تحت التهديد والإهانة لكرامتهم الإنسانية وحشر النساء والأطفال والشيوخ في شاحنات أعدت لذلك الغرض وتركت تلك العوائل المنكوبة كل ماتملكه خلفها وعزل الفتيان والشباب وفصلوا عن أمهاتهم وآبائهم وغيبوا في السجون ورمي الباقون على الحدود الإيرانية العراقية يعانون من البرد والمرض والعطش والجوع ووعورة الطريق والظلام ومات العديد منهم في الطريق ويعرف من شهد تلك العملية العنصرية الوحشية الرهيبة التي ترفضها حتى شريعة الغاب كم كان وقعها أليما وقاسيا على أهل المدينة من العرب الشرفاء الذين عاشوا لعشرات السنين مع هؤلاء المواطنين العراقيين وتقاسموا معهم الخبز والملح والأفراح والأحزان تجمعهم رابطة الدم والهوية الوطنية وكان أمرا طبيعيا أن يتزوج العربي من الكردية الفيلية والكردي الفيلي من العربية ولم يعرف الجميع في قاموسهم معنى للفرقة على أساس قومي فالكل عراقيون تجمعهم خيمة العراق الحانية الرحيبة المتسامحة. تعرضت مدينة الكوت لقصف الطائرات الإيرانية والأمريكية والبريطانية وحلفائهما أثناء الحرب العراقية الأيرانية واحتلال الكويت وحرب الخليج الثالثة ودمرت فيها الكثير من بيوتها البسيطة والمنشئات المدنية فيها .كل تلك الكوارث التي لحقت بأهلها زادتهم تلاحما وتعاطفا وحفاظا على قيمهم الإنسانية النبيلة.
هناك في أحد أزقتها المكتظة بالناس الطيبين و الواقعة في منطقة المشروع رأت الوليدة (أ) النور يوم 2/1/1971 في بيت صغير متهالك أستأجره والدها بثلث راتبه ليكون ملجا لعائلته التي تضم خمسة أفراد (الوالدان وثلاثة أبناء ) حيث صمم الولدان على رعايتهم وتنشئتهم تنشئة صالحة وبذل الغالي والنفيس من أجل مواصلة دراستهم لنيل أعلى الشهادات العلمية ليخدموا بها وطنهم العراق وكان تسلسل (أ )الرابع بعد شقيقين وشقيقة ومن سوء حظهم جميعا أنهم ولدوا في زمن البعث زمن القهر والظلم والاستلاب.زمن العنصرية البغيضة والطائفية القذرة التي تخالف كل منهج أنساني وعرف أخلاقي وعقيدة دينية سماوية. ومنذ لحظة ولادتها عانت العديد من الأمراض ويشهد مشفى الأطفال في المدينة وعيادات أطباء الأطفال بصمات واضحة لها في تلك الأماكن.حيث جلبها والداها باستمرار ولخمس سنوات متتالية مرة ألى تلك الأماكن تحول الأطباء على أثرها ألى أصدقاء للوالدين لفترة طويلة وهي تتلقى العلاج وتتناول مختلف أنواع الأدوية وتزرق الأبرالمضادة للمرض في جسدها النحيل الذي كان يتلوى تحت شدة الألم . وكان الوالدان يقطعان من لقمة عيش العائلة لإنقاذها من الأمراض التي صاحبتها من أول يوم ولادتها وتحول ذلك الأمرألى هم وحيد ورئيسي لهما حيث كان مرضها يضفي جوا حزينا داخل البيت. ورغم ضعفها الشديد واصفرار بشرتها كانت تملك عينين سوداويتين تشعان بالإصرار والأمل وتتشبثان بالحياة بشكل عجيب مما زاد الوالدين حنوا وعطفا عليها. رغم أن اهتمام الوالدين الشديد بها كان يثير غيرة أختها وأخويها لكن سرعان ماكانت تلك الغيرة تتلاشى في جو المحبة الذي جمعهم. و نتيجة الحديث الذي كانا يتداولانه معهم بأن أختهم مريضة ويجب على الجميع أن يتعاطف معها ويساعدها لأنقاذها من المرض الذي ألم بها حتى تشاركهم في اللعب وغالبا ما كانوا يقتنعون بكلام والديهم وتتلاشى غيرتهم.
وبعد أن تجاوزت (أ) الخامسة من عمرها بدأت صحتها تتحسن تدريجيا ويعود ألى وجهها بعض الدم. وكانت شديدة الانتباه لما يدور حولها وتسأل أسئلة كثيرة لاتتناسب مع مستوى عمرها.وحين بلغت السادسة (ألا يوم واحد) ذهبت بها أمها لتسجيلها في المدرسة القريبة من البيت وحين فتحت مديرة المدرسة أضبارتها واطلعت على يوم ولادتها قالت (أن أبنتك بحاجة ألى يوم واحد لكي تكمل السادسة من عمرها لذا لايمكن قبولها في هذا العام. عودي بها في العام القادم حسب تعليمات مديرية التربية !!!) فأجابتها الأم وهل يعقل ذلك ؟ ردت عليها مديرة المدرسة : (هكذا تقول التعليمات ونحن أناس محكومون بتطبيق القانون وأذا خالفناه سنحاسب على ذلك !!!) وكان في تلك الفترة الكثير من الموظفين الكبار في الدولة من البعثيين الذين لايملكون الشهادة الابتدائية ويتجاوزون القانون ويصولون ويجولون وكأن العراق تحول ألى غابة وضيعة لجلاوزة (الحزب القائد ) وعلى رأسهم كبيرهم صدام حسين الذي هرب من الخدمة العسكرية وتحول ألى مهيب ركن يعبث بمقدرات العراق كيفما يشاء وقد قال في أحدى لحظات غروره وطيشه (ماهي القوانين ؟ أنها عبارة عن حبر على ورق نستطيع تغييرها بمكالمة تلفونية. ) ذهب والدها ألى مدير التربية ليشكو حالة أبنته فأجابه مدير التربية بالحرف الواحد: (هذه تعليمات وزارة التربية ونحن ملزمون بتطبيقها حرفيا وأذا قبلنا أبنتك فسيفتح علينا باب لايمكن غلقه بسهولة ويأتينا آخرون وآخرون حالتهم تشبه حالة أبنتك ونحن لانستطيع المس بالقوانين والأنظمة السارية والتعليمات صارمة لاتقبل الاجتهاد. !!! ) استولت الحيرة على الأب ماذا يفعل وألى أين يذهب ولعن ذلك اليوم الذي ولدت فيه أبنته وكان له صديق يعمل كمشرف تربوي في المديرية العامة للتربية ففاتحه بالأمر وطلب مساعدته و تعاطف المشرف التربوي مع الحالة وطلب من والدها أن ينتظر شهرا عسى أن يجد حلا في وزارة التربية وطلب الأضبارة .وبعد انقضاء الشهر راجع الأب المشرف التربوي و عرف أن المشرف التربوي قد حصل على قرار من وزارة التربية يقول (تشكل لجنة من مديرة المدرسة والمشرف التربوي ومعلمتين للبت النهائي بأمر التلميذة (أ) لقبولها في الصف الأول الابتدائي.!!!) وأخيرا وبعد التي واللتيا ومداولات دامت أسبوعا أثمرت جهود المشرف التربوي (لطيف حسين ) رحمه الله وتم قبول الطفلة (أ) في الصف الأول الابتدائي.وفرحت العائلة بهذه النتيجة. واجتازت الطفلة (أ) المراحل الابتدائية الست كانت فيها الأولى على صفها وتحولت ألى كتلة من الحيوية والنشاط بعد أن كانت حالتها يرثى لها وحين كان الوالدان يسألانها ماذا ستتمنين أن تكوني في المستقبل ؟ كانت تجيب بسرعة (طبيبة أطفال ) . ولماذا ؟ حتى أعالج أطفال العراق حتى لايمرضوا مثلي. لكن براءة الطفولة كانت لاتدري ماذا يخبئ لها غول البعث الطائفي العنصري الذي لايرحم حيث تجري الرياح بما لاتشتهي السفن. وكبرت (أ) وكبر معها طموحها الذي لازمها كما يلازم الظل صاحبه وأجتازت مراحل المتوسطة الثلاث بامتياز وانتقلت ألى المرحلة الثانوية واختارت الفرع العلمي بكل ثقة حيث ازدادت عزيمتها ورسخ إصرارها في دخول كلية الطب وكانت تسبق أشقاءها في الذهاب ألى المدرسة رغم هدير الطائرات الحربية التي كانت تخترق أجواء المدينة حيث كانت الحرب العراقية الإيرانية على أشدها . وابتدع الصنم (عيد ميلاده ) الذي تحول بأمره ألى يوم وطني على العراقيين جميعا كبارا وصغارا حيث يتم الخروج فيه ألى الشوارع والساحات العامة لإبداء مشاعر الفرح والبهجة والسرور بعيد الميلاد. وكان الثقل الأكبر يقع على طلاب وطالبات المدارس والهيئات التعليمية ليبرزوا ذلك الأحتفال على الصورة التي يتمناها النظام حيث كان الاحتفال بميلاد (القائد ) أهم بكثير من التحصيل العلمي وضحايا الحرب الذين كانت تتقاطر جثثهم على ذويهم. وكانت مدرّسة الرياضة بعثية صدامية بامتياز وتطالب الطالبات بنزع الحجاب في ساحة المدرسة والهتاف بحياة القائد في (المخيم الكشفي )تمهيدا ليوم (الفرح الأكبر يوم ميلاد القائد) الذي لامكان فيه للمحجبات وهو( يوم مقدس بالنسبة للجميع) ولابد أن تخرج كل طالبة بأزهى ثيابها وزينتها وكل من تخالف هذا الأمرحسب تعليمات الحزب سترسب في درس الرياضة حتما حتى ولو أحرزت مئة بالمئة في الدروس الأخرى. وكانت تطلق كلمة (الخمينية ) على كل فتاة ترتدي الحجاب وكأن الخميني هو الذي جاء بها. وكانت مديرة المدرسة لاتختلف عن مدرسة الرياضة في توجهاتها وعبادة شخصية (القائد) وبدأت المتاعب تحيط ب (أ) وزميلاتها اللواتي كن على شاكلتها من المحجبات حيث نشأن في عوائل محافظة وكن كثيرات. وأخيرا رسبت ( أ ) في درس (الرياضة ) في الصف الخامس العلمي رغم أعفائها في الدروس العلمية ودخلت الدور الثاني ونجحت فيه بدرجة 50% تنكيلا بها. وانتقلت ألى الصف السادس العلمي وهي تزداد ثقة بنفسها وبقدراتها على تحدي مدرسة الرياضة الصدامية التي حقدت عليها بعد أن عرفت أنها تنتمي لشريحة (الكرد الفيليين ) الذين كانوا يعاملون كمواطنين من الدرجة الثالثة أو أقل من ذلك في زمن البعث الصدامي باعتبارهم من (أصول فارسية ) واجتازت أمتحان البكلوريا- الفرع العلمي بمعدل 90 % رغم كل العراقيل والمنغصات التي وضعت في طريقها خلال السنة الدراسية من مدرسة الرياضة ومديرة المدرسة. وحين طلب منها تصديق الوثيقة المدرسية من منظمة (حزب البعث ) ختمت المنظمة البعثية على الوثيقة عبارة (درجة ثالثة ) وهو رمز يعني أنها وعائلتها غير موالين لحزب البعث . وانتظرت النتيجة من الكومبيوتر الصدامي الذي كان يتلاعب بنتائج القبول وكانت نتيجتها القبول في (كلية العلوم –جامعة بغداد –فرع الرياضيات .) وبكت كثيرا لتلك النتيجة التي لم تكن تتوقعها ولم يكن بأمكانها تغييرها مطلقا. ووأد حلمها الذي كانت تحلم به وهو أن تتخرج طبيبة تعالج أبناء وطنها . وبتشجيع مستمر من والديها على القبول بالأمر الواقع وشق طريقها في الحياة وأن كل العلوم مهمة ويكمل بعضها بعضا وأن علم الرياضيات علم حيوي يحظى بأهمية كبرى في المستقبل رضخت للأمر الواقع واجتازت المراحل الأربعة في كلية العلوم بنجاح باهر رغم سنوات الحصاروالبحث في بداية كل عام عن مكان تسكن فيه مع زميلاتها حيث ألغى النظام الصدامي الأقسام الداخلية وكان ذلك العمل بمثابة ضربة قاصمة ألى الدخل الشهري لطبقة الموظفينحيث كان يستنزف ذلك العمل رواتبهم الضئيلة التي كانت لاتكفي لأيام معدودة. ورغم مضايقة جلاوزة البعث في الكلية مما كان يسمى ب (الأتحا د الوطني لطلبة العراق ) وهي منظمة بعثية كانت تجمع المعلومات الأمنية عن كل طالب وطالبة . تخرجت (أ ) بدرجة جيد ورفض طلب تعيينها كمدرسة أسوة بالآخرين من زميلاتها وزملائها ولم تعرف السبب في بادئ الأمر ألا أنها علمت فيما بعد أن شهادة جنسيتها (عراقية –من التبعية الأيرانية ) وهكذا كانت شهادة جدها عام 1942م وشهادة والدها عام 1960م وهما عراقيان بالولادة لكن أصولهما (تبعية أيرانية) وهذه جريمة لاتغتفر بالنسبة للنظام البعثي الشوفيني يجعلها مبررا للأنتقام والتنكيل من هذه الشريحة من الشعب العراقي الملتصقة بأرضها ألى أقصى حد ممكن. فاتبع معهم سياسة التهجير القسري ألى أيران بعد سلبهم من كل مايملكونه وتسقيط جنسيتهم العراقية ومنح كل واحد منهم ورقة يكتب عليها (أيراني لايملك وثائق عراقية ) وهو وأجداده منذ عصور طويلة لايعرفون غير العراق وطنا أما الذي لايرغب النظام بتهجيره ألى أيران فيلقى التنكيل والتمييز العرقي والحرمان من كل حقوق المواطنة داخل الوطن وكأنه قابع في سجن ينتظر مصيره المحتوم. تزوجت (أ) أبن عمتها بعد أن عزم والداها على الرحيل ومن سوء حظها أن أبن عمتها تخرج من معهد المعلمين وحرم من التعيين كمعلم لأن شهادة جنسيته من (التبعية الإيرانية ) ورزق الطرفان بثلاثة أبناء حيث كانت (أ) تدرس بعض الطالبات خفية في بيوتهن وزوجها يبيع (المحابس )وبعض الحاجيات البسيطة كبائع متجول في السوق ويسكنان في غرفة قديمة تبرع بها لهم أحد الأغنياء من ذوي الضمائر الحية . وقد حاولت في أحدى المرات تدريس طالبات في معهد المعلمات محاضرات في الرياضيات بأجور يومية حيث كان المعهد بحاجة ألى مدرسة رياضيات كمحاضره فقط ولكن حين شاهدتها أحدى المشرفات التربويات البعثيات قالت لها ( كيف دخلت ألى هذا المكان المحرم على الأيرانيين ؟!!! ) وطردتها مودعة أياها بكلمات بعثية بذيئة تعود علها جلاوزة النظام الصدامي. ومن سخريات القدر أن هذه البعثية الصدامية بعد ثمان سنوات من سقوط البعث مازالت تعشعش في مديرية تربية واسط وضحيتها لاجئة !!!. بقيت على هذه الحال لعشر سنوات أنجبت خلالها الأطفال الثلاثة وعانت فيها الكثيرمن الجوع والفاقة والحرمان والرعب الذي لايمكن وصفه وحاولت في أحدى هذه السنوات أن تتعين ككاتبة بسيطة في أحدى الدوائر التي كانت تعين خريجي المدارس الأبتدائية فكانت كل طلباتها ترفض بحجة (التبعية الأيرانية ). وحزنت (أ ) كثيرا بعد رحيل والديها ألى دولة أوربية حيث لامناص للخلاص من نظام البعث العنصري الدموي ألا اللحاق بهما واللجوء ألى أحدى الدول الأوربية بعد أن حوربا حربا لاهوادة فيها وأجبرا على التقاعد من العملية التعليمية بعد أن قضيا فيها سنين طويلة وتلاشى بريق شبابهما من خلالها. وصل الأمر ب (أ) وزوجها وأبناؤهما الثلاثة بالمبيت على الطوى جوعا في الكثير من الليالي التي مرت عليهم نتيجة الفقر المدقع الذي خيم عليهم دون رحمة وحرم الأطفال من أبسط حقوقهم في دولة البعث ولم يستطع والداهم شراء ملابس جديدة لهم في مناسبة الأعياد التي كانت تمر ويفرح بها الطفل أكثر من أي شخص آخر. وفكر الوالدان بعملية أنقاذ نفسيهما وأطفالهما الثلاثة قبل فوات الأوان بعد أن لاحت بوادر احتلال العراق من بوش الأبن . وتم جمع مبلغ بسيط من قبل الوالدين المقيمين في السويد على عجل تستطيع بها العائلة الحصول على جوازات سفر لخروجهما من العراق وتم ذلك أيضا بمساعدة مادية من أحد المحسنين العراقيين الشرفاء حيث أكمل المبلغ المطلوب وبعد عدة عراقيل جمة من الدوائر الصدامية لايسع المجال لذكرها خرجت (أ ) وزوجها والأبناء الثلاثة من العراق ووصلوا ألى سوريا وهم على حافة الهلاك ولم يملكوا من حطام الدنيا شيئا. وكانت الأم قد سافرت قبل وصولهم من السويد ألى سوريا لتهيئة السكن للعائله النازحة. وهناك تم أسكانهم في مكان لايصلح للبشر . وذهبوا بعد أيام (ألى مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في دمشق ) لبث شكواهم عسى أن يجدوا بصيصا من الأمل . وهناك وجدوا كتلا بشرية من العراقيين تعاني وتبحث عن خلاص . ملأوا أستمارة اللجوء كباقي الناس وانتظروا ثلاثة أشهر حيث أعلموا في مخابرة من المفوضية بحصولهم على اللجوء ألى أحدى الدول الأوربية واتصلت موظفة في كومون مدينة (Flen) السويدية تخبر الوالدين بأن أبنتهم وزوجها وأولادها الثلاثة قد حصلوا على لجوء أنساني في السويد وسيأتون بعد أسبوع وسيستأجر الكومون سيارة أجره لجلبهم من مطار ستوكهولم ألى المدينة التي تعيشون فيها ولم يصدق الوالدان الخبر في أول الأمر . لكنها كانت الحقيقة حيث حصلوا على بطاقات السفر ألى السويد من الأمم المتحدة يوم سقوط الصنم في العراق.!!! وبعد أيام من وصولهما شمروا عن أذرعهم وشحذوا هممهم لتعويض مافاتهم من ضياع السنين حيث دخلوا المدرسة الأولية واجتازوها بنجاح تام ثم دخلوا أختبارات عديدة عام كامل لدراسة اللغة السويدية والأنكليزية بعد معادلة شهادتيهما ثم درست (أ ) لمدة ثلاث سنوات في جامعة (أسكلستونا ) واصلت الليل بالنهار في الدراسة رغم متطلبات الأولاد الثلاثة ومشاغلهم وتخرجت بعد أن حصلت على درجة (الماجستير ) في الرياضيات بدرجة أمتياز تعينت على أثرها كمدرسة رياضيات في أحدى المدارس الثانوية رغم زوال أمنيتها التي كانت تتمناها في بلدها وهي أن تتخرج كطبيبة أطفال تعالج أطفال العراق المتعبين بعد أن عانت هي من المرض كثيراوتتألم كثيرا وتلعن أيام الاستلاب في وطن الخير والبترول الذي تحول ألى غابة لذئاب البعث ولغيلان النهب والحصص والفساد ألى هذا اليوم ولأن بلدا أجنبيا أعطاها حقها الإنساني وحرمها حكام وطنها من كل حقوق المواطنة التي تستحقها في الوطن الذي ولدت به وولد به أبوها وجدها وأجداد جدها ولكن:
ماكل مايتمنى المرء يدركه ـ تجري الرياح بما لاتشتهي السفن
وما زالت ( أ ) تؤمن بالبيت الشعري الذي قاله الشاعر المنقري:
لعمرك ماضاقت بلاد بأهلها -ولكن أخلاق الرجال تضيقُ
حيث أن لها ذكريات وذكريات مع زميلاتها في المدرسة لايمكن أن تمحى من ذاكرتها مهما تقادم عليها الزمن رغم كل الظلم الذي عانته في دولة البعث الصدامية القرقوشية التي أعجب بها الكثير من الأعراب الذين مازالوا يعيشون نعراتهم الجاهلية وينتصرون لكل دجال يرفع رايات العروبة لاضطهاد القوميات الأخرى
حصل زوجها على درجة (معاون مهندس ) بعد أن درس لسنتين في أحد المعاهد الصناعية ويعمل الآن في شركة (سكانيا ) لأنتاج السيارات كمساعد مهندس ويطمح أن يحصل على بكالوريوس في الهندسة التطبيقية وقبل الأولاد في المدارس وهم متفوقون في صفوفهم . ورغم كل تلك المعاناة التي عانتها ( أ ) في وطنها فأنها مازالت تحن أليه وتتمنى أن لايظلم مواطن على أساس العرق أو المذهب كما ظلمت هي وأن يعامل حكام وطنها العراقي من أي قومية أو مذهب كان وهذا هو لب النظام الديمقراطي كما تفعل دولة السويد التي أخذت من الإسلام الكثير وخالف جلاوزة البعث كل القيم الإنسانية التي حملها الإسلام حيث قال الله في محكم كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم : (يأأيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم أن الله عليم خبير . )13-الحجرات.
جعفر المهاجر/السويد
17/5/2011م
|