• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : في ذكرى حصـــار الكــوت .
                          • الكاتب : صادق غانم الاسدي .

في ذكرى حصـــار الكــوت

 لم يكن احتلال العراق سهلا\" كما تصوره القادة العسكريين لدولة بريطانيا عندما فكروا بضم العراق الى ممتلكاتهم دون ان يعرفوا تركيبة الشعب العراقي الذي هو عبارة من نسيج اجتماعي تمتزج فيه الروح الوطنية والتأثيرات الدينية من حوزات ترسل ندائها عندما يكون البلد وابنائه في موضع التهديد من الخطرالخارجي والداخلي,فيهب ابنائه وعشائره بجميع المسميات للذود عنه, وفي حصار الكوت كان للحوزات الدينية ورجال الفكر وشيوخ العشائر الدور الكبير بحث ابناء العراق بمختلف طوائفه لقتال ملة الكفر الى جانب الدولة العثمانية المسلمة وتناسى الجميع المشاكل الخاصة ومااصابهم من ضرر وشكلوا جبهة واحدة للذود والنصرة عن هيبة الاسلام ,ولم تكن القوات التركية هي الوحيدة صاحبة النصر في هذه الملحمة , في 23 ايلول 1915 عينت الحكومة التركية القائد الالماني فون درغولتز قائدا\" عاما للجيش السادس الذي شمل مجاله العراق وايران , وكان القائد يومذاك عمره الثانية والسبعين وبرتبة( فليد مارشال ) ويعتبر من عظماء القواد في اوربا , وصل الى بغداد في كانون الاول 1915 وبصحبته ثلاثون ضابطا\" المانيا\" , واستقبل استقبالا\" فخم وخصصت لسكناه دار القنصلية الانكليزية الواقعة على نهردجلة , ووضعت تحت تصرفه سيارة خاصة مع العلم ان تاريخ دخول اول سيارة للعراق كان يوم 5 تشرين الاول 1915 فعندما كان يسير بها الى جهة الكوت يتعجب العراقيين من هذه الماكنة التي لم تجرها الخيول , وقد درس الموقف العسكري في جبهة الكوت , فالتقى هناك بالقائد التركي نور الدين بك , ووقع خلاف بينهما حول الخطة العسكرية التي يجب تنفيذها , فيرى القائد التركي الهجوم على القوات البريطانية ومتابعتها حتى القضاء عليها اما رأي فون فهو محاصرة هذه القوات من جميع الجهات وتشديد الحصار عليها لكي تستسلم تحت وطأة نفاذ الذخيرة والمعونة, عاد ( فون غولتر) الى بغداد واستغل نور الدين غياب القائد الالماني فقام بمها جمة الجنود البريطانين فبأت محاولاته بالفشل وتكبدت قواته خسائر كثيرة , وقد عاد فون درغولتر مرة ثانية الى الكوت وشاهد نتائج الهجمات الفاشلة , وعلى اثر ذلك اشتد الخلاف بين القائدين واخيرا\" قررت القيادة العليا في اسطنبول الآخذ برأي غولتر وأمرت بنقل نور الدين تماشيا\" للمصادمة بينهما الى جبهة قفقاسيا ,بعد ان كرمته القيادة لاعماله الحربية, وفي اوائل اذار عين خليل بك واليا\" على بغداد وبترقيته الى رتبة امير لواء , دام حصار الكوت من اوائل كانون الاول 1915 الى اواخر نيسان 1916 اي حوالي 5 اشهر , وقد عانى اهل الكوت وافراد الحامية الانكليزية معهم في تلك المدة ومابعدها اصنافا\" شتى من العذاب , يقدر عدد سكان الكوت في تلك الفترة ستة الاف وقد ارتأى طاوزند اخراجهم من البلدة لكي يتخلص من مشكلة اعاشتهم وتوفير الغذاء لهم , وقد عارضه بذلك السير برسي كوكس الذي كان موجود ( فقال انهم سيهلكون بالصحراء ويموتون بردا\" وجوعا\"وقد يتعرضون الى التسليب والقتل من قبل بعض العشائر وقطاع الطرق وخصوصا\" منهم الاطفال والنساء ) وهذا سيحدث دعاية ضدنا وليتخذها العدو حجة يشهر بنا وخصوصا\" ان هدفنا هو تخليص الشعب العراقي من الحكم العثماني , فوافقه الرأي بذلك,اختلفت المصادر في شدة المجاعة التي تعرض اليها اهل الكوت , وان الحاكم العسكري كان يطعم في كل يوم ستمائة شخص مجانا\" لانهم لايملكون نقودا\" يشترون فيها الطعام وخفض كذلك من اسعار الحنطة الى ثلاثة الاف شخص , ويمكن القول ان اهل الكوت لم تستفحل بهم المجاعة الا بالمراحل الآخيرة من الحصار , لانهم قبل ذلك كان يدخرون الحبوب والدبس والتمر وبعض الاطعمة في بيوتهم , في يوم 12 كانون الثاني 1916 يوم نحس على اهل الكوت فأخذوا الجنود يفتشون بالبيوت عن الدقيق فأن وجدوا كيسين يصادر كيس والأخر يبقى وان عثروا على كمية كبيرة صادروها , وقد أعلنت السلطات البريطانية مكافأة لكل من يدلي عل مخابأ الحبوب عند الأهالي , والظاهر من هذه الاجراءات ان معسكرات الانكليز بدأت تنفذ فيها المعونة والحبوب ولم يتصورو ان هذا الحصار سيطول لهذه الفترة , مع ان بعض الأهالي سرب لهم معلومات ان في بعض البيوت حنطة تكفي لمعونة معسكر كامل بجميع افراده, وفعلآ\" تم العثور على الكثير من الحنطة المخزونة في الدور السكنية , كما عانى اهل الكوت مشقة كبرى في الحصول على ماء الشرب من النهر فهم اعتادوا كغيرهم من اهل العراق ان يستمدوا ماء الشرب من النهر وذلك بان يرسلوا نساءهم يحملن اوعيتهن من الجرار والمشارب ليملأنها بالماء من النهر , وقد اصبح ذلك في ايام الحصار خطر لان الاتراك في الجانب الاخر من النهر يطلقون الرصاص عل كل من يقترب من الماء , وقد قتل من جراء ذلك عدد غير قليل من نساء الكوت , كما عانى اهل الكوت شحة مضنية في مواد الوقود, فقد دأب جنود الحامية على انتهاب كل الاخشاب التي وجدوها في البلدة واقتلعوا شبابيك البيوت وابوابها كما انتزعوا سقوف السوق , ولهذا كان الشتاء الذي مر على اهل الكوت في تلك السنة قاسيا\" جدا\", فكان من اصعب الامور عليهم اعداد الخبز او طبخ الطعام علاوة على التدفئة لنفاد الوقود لديهم ,كماعانى اهل الكوت من قصف القنابل التي تنهال عليهم يوما\" بعد يوم انهم كانوا في الايام الاولى من الحصار يتضاحكون عندما يشاهدون قنابل الاتراك وكانوا يقلدونها بافواههم وسرعان ماتبدلت فكرتهم عندما سقطت احدى القنابل على بيت من بيوت المدينة وقتلت جميع مافيه, وكان اليوم الاول من شهر اذار يوما\" عصيبا\" على اهل الكوت فقد سلط الاتراك في ذلك اليوم على البلدة واحد وعشرين مدفعا\" ترميهم بالقنابل كما حلقت فوقها ثلاث طائرات اسقطت خمسين قنبلة, فمات تحت انقاض البيوت المهدمة ستة عشر شخصا\" وجرح اربعة واصابة احد القنابل جامع البلدة فقتلت فيه رجلين وارتفع العويل والنوائح , نفذ صبر الاهالي فشرعوا منذ منتصف شهر نيسان يحاولون الخروج من البلدة بأية وسيلة تقع في ايديهم , وقد ارسل اليهم طاوزند يحذرهم بانه لامانع لدية من خروجهم من البلدة على ان لايعوده اليها مرة ثانية خشية ان يندس اليها الجواسيس اثناء العودة ,اما الاتراك فلا يحبون ان يخرجوا اهل الكوت من المدينة كي لايخفف الاعاشة على طاوزند ويبقى اكبر فترة من المقاومة فقد استخدموا وسائل الترهيب فقذفوا اليهم رجل مقتول من المدينة واخر قطعت يداه واخر اقتلع لسانه وفي عنقه ورقة مكتوب عليها ( هذا جزاء كل من يخرج من الكوت ) ففي كل ليلة يخرج عدد مع نسائهم واطفالهم لعبور النهر على الاطواف التي صنعوها وهنا يلعب الحظ دوره فمنهم من ينجو ومنهم من يموت برصاص الاتراك او يقع في ايدي الاتراك فيقتلونه, اما حال الجنود البريطانيين فقد اخذوا يأكلون لحم القنافذ بعد تقليته بزيت العجلات وشرع بعض الجنود يأكلون الكلاب والقطط حتى نفذت جميعا\" , ولم ينج من الكلاب سوى ثلاثة احدهما كلب طاوزند والاخران للجنرال مليس , وحين جاء الجراد رحبوا به مبتهجين , وصار الهنود يبحثون عن انواع خاصة من الحشائش ليطبخوا منه طعاما\" له , وشاع هذا الطعام حتى اخذ يأكله القواد وطاوزند نفسه, وقد واجه طاوزند مشكلة كبيرة عندما قرر ذبح الخيول بعد استنفاذ المعونة , فقد رفضها الكثير من جنوده الهنود اكل لحم الخيل وكان اغلبهم من الهندوس وذلك لان دينهم يحرم عليهم اكل اي لحم مهما كان مصدره , والغريب ان معظم المسلمون رفضوا اكل لحم الخيل ايضا\" مع العلم انه غير محرم في الاسلام بل مكروه , واستخدم طاوزند من جانبه سياسة التشجيع لمن يأكل لحم الخيل من جنوده الهنود فأمر برتفيعهم بينما امر بتنزيل رتبة الرافضين , فأسفر عن ذلك نتائج حسنة وكانت الايام الآخيرة صعبة جدا\" وخاصة على المتشددين من اكل اللحوم , فأخذوا يموتون يوميا\" خمسة عشر رجل مع ان بعض الجنود اخذوا يفرون الى جانب العدو, كما ان بعض الطائرات الانكليزية اخذت ترمي اكياس الطحين الى المحاصرين من مكانات مرتفعة ولم ينفع معهم لأن معظم هذه الاكياس تسقط على الاراضي المقاربة للقوات التركية والاخر يسقط في النهر وكان مجموع ماحصلت عليه الحامية من رمي الطحين عبر الطائرات هي 7 أطنان فقط , وقد استغل الاتراك هذه المواقف ووزعوا منشورات مكتوبه باللغات الواسعة الانتشار وموجه الى الهنود المسلمين والاخر موجه الى الهنود عموما\" ,فالمنشورات الموزعة على المسلمين من الهنود تحرضهم على الامتناع من مقاتلة اخوانهم في الدين فرار\" من نار جهنم , اما المنشورات من النوع الاخر فكانت تضرب على وتر وطني حيث تذكرهم مافعلوه الانكليز من ظلم اتجاه الهنود وكيف ان الاتراك والالمان كانوا يريدون لهم الخير , اخذت هذه المنشورات تؤثر على الكثير من المقاتلين ولاسيما المسلمين منهم , اختار طاوزند اثناء حصار الكوت دارا\" في وسط البلدة لتكون مسكنا\" له ومقرا\" لقيادته وكانت تلك الدار من احسن الدور وامر طاوزند بوضع بالات الصوف على سطح الدار وقاية لها من خطر القنابل كما امر بتغليف سياجات السطح بصفائح من حديد ويقول طاوزند في مذكراته كان العدو طول مدة الحصار يرمي مقري بالقنابل رميا\" دقيقا\" بلا انقطاع وقد عانى هذا القائد من نفاد معونته وطلب من القيادة العليا تزويده لما يحتاجونه الجيش باسرع وقت , وقد ارتأى الانكليز في اواخر ايام الحصار ارسال بأخرة مشحونة بالاطعمة وارسالها خلسة الى الكوت على باخرة ( جلنار) وهي اسرع باخرة للنقل في العراق , كانت الباخرة في العمارة وقد درعها الانكليز بصفائح من الحديد واكياس من الرمل لوقايتها من الرصاص ثم شحنوها بمأتين وسبعين طنا\" من المواد الغذائية , وتتطوع عدد من البحارة ليكونوا فيها عند مسيرتها الى الكوت, وتحركت الباخرة في الساعة 7 مساء\" من 24 نيسان وكان الاتراك قد وضعوا بمعونة الخبراء الالمان سلكا\" معدنيا\" عبر النهر مائلة , وعندما وصلت الباخرة الى السلك بدأت تنحرف في سيرها تبعا\" لميل السلك حتى توحلت في الطين في الظفة اليمنى من النهر, فهجم عليها الاتراك واستولوا على مافيها من مواد غذائية كما اسروا الاحياء من بحارتها , في الساعة العاشرة من صباح 26 نيسان 1916 ارسل طاوزند رسالة الى علي نجيب باشا قائد القوات التركية التي تحاصر الكوت يخبره بأنه مخول من قبل القائد العام بالمفاوضات او يطلب هدنة لمدة ستة ايام وبعد ساعة ارسل طاوزند رسالة اخرى بمثل هذا المعنى الى القائد التركي العام خليل باشا , وفي المساء وصل الكوت ضابط تركي يحمل الجواب من خليل باشا , اذ يقول فيه ان طاوزند وجنوده سوف يلقون في تركيا استقبالا\" عظيما\" لما ابدوه من بسالة للدفاع عن الكوت طيلة الاشهر الماضية وفي 29 نيسان امر طاوزند بتدمير المدافع الموجودة في الكوت فانه على يقين من ان المفاوضات الجارية لاجدوى لها وكان عدد المدافع يناهز الاربعين وتبلغ قيمتها مائة الف باون واخذ الجنود يدمرونها كما دمروا رشاشتهم كي لاينتفع العدو بها , وحتى اجهزة الاسلكي , وبعد الظهر من ذلك اليوم ارتفعت الاعلام البيض على خطوط الانكليز في الكوت دلالة على الاستسلام , فأقبل من المعسكر التركي ضابط برتبة عقيد اسمه ( نظام بك) وهو راكب على فرسه وخلفه رتل طويل من الجنود الاتراك تتقدمهم الطبول , وعندما اقترب من البلدة استقبله الاهالي بالهوسات ثم قال خليل باشا يخاطب طاوزند انه سيرسله الى اسطنبول مكرما\" حيث يحل ضيفا\" عزيزا\" على الامة التركية اما قواته فسوف ترسل الى اماكن في الاناظول معتدلة المناخ , اما الجنرال الالماني غولتز صاحب فكرة حصار الكوت فقد توفى نتيجة مرض اصيب به قبل ان يرى ويتمتع بمشهد النصر على القوات الانكليزية .




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=5351
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 04 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15