الشعوب العربية تعيش صحوة ثورية ضد حكامها الذين حّولوا السلطة الى ملك شخصي متوارث لا يمكن التنازل عنه لاحد ، حتى لو كان الشعب بملايينه ،ومن الحكام من استلم الحكم بانقلاب عسكري مدعوم من احدى دوائر المخابرات الاجنبية ، ويرفض تسليم الحكم الى الشعب ،صاحب الحق الشرعي في السلطة ،وتحول الانقلابيون الى ملوك وسلاطين مثل اقرانهم من الحكام الاخرين ، هؤلاء الملوك والسلاطين يتخيلون ان الله خلقهم هكذا ملوكا وسلاطين ، اما بقية الناس فخدم ورعية ، وتجد هؤلاء الحكام مصابين بامراض نفسية شتى منها جنون العظمة ،هؤلاء الملوك والسلاطين يعيشون الحيرة هذه الايام ، وهم يرون شعوبهم تثور وتنتفض ضد هم وضد ظلمهم ، لذا نراهم يتصرفون بجنون ويستخدمون انواع البطش والقوة لخنق وقتل هذه الثورات ،وهم اذ يقفون هذا الموقف المخزي المشين عديم الانسانية ، يلقون الدعم والتشجيع والاسناد من دوائر النفاق والنهب العالمية بقيادة اميركا ، اذ يدعمون هذه الانظمة البالية المتجبرة ،تأمينا لمصالحهم على حساب الشعوب المنكوبة المظلومة ،وهذا ما يحصل بشكل سافر اليوم في البحرين والشعب المضطهد المظلوم يدفع الثمن ، اذ التدخل العسكري المفضوح من دول الخليج بضوء اخضر من الحكومة الامريكية ، وكذلك مايحصل في اليمن ومصر وتونس وليبيا ودول اخرى ، ولكل دولة من هذه الدول توجد طبخة امريكية تناسب ظرف كل دولة من الدول التي انتفضت فيها الشعوب على حكامها ،واذ تقوم امريكا بهذا الدور املا في انقاذ النظم في الدول الثائرة ،تبقى الشعوب تعاني التخلف في مختلف الميادين ، وتحاول النظم القائمة تكريس حالات التخلف هذه ، لان التقدم والتطور الأيجابي بالنسبة لهؤلاء السلاطين والملوك هو نقيض استمرارهم في الحكم ،اذ سيمنح هذا التطورالشعب الوسائل الكفيلة التي تساعد وتسهّل اسقاط النظام ، فالشعوب العربية رغم الواقع المتردي الذي تعاني منه ، الا انها تعيش حالة الوعي وتتطلع الى الحرية والديمقراطية والتقدم ،وهي على تواصل مع دوائر الانفتاح الفكري في العالم بفضل التطور العلمي الذي فرض نفسه من خلال الانترنيت والفضائيات والموبايل حالة الوعي الجماهيري الواسعة هذه دفعت الشعوب العربية الى الثورة على الواقع السئ الذي تعاني منه ،رغم وسائل الضغط والقمع من حكومات هذه الدول ، ورغم الدعم المعلن والخفي من دوائر الاستغلال العالمية كأمريكا وحلفائها ، ورغم الدعم الصهيوني المتعاون مع هذه الانظمة ، والمتتبع للموقف الامريكي حيال الثورات الشعبية اليوم ، يجد الارباك والازدواجية في المواقف ، اذ نرى موقفها من هذه الانظمة بمقدار القرب والبعد من دائرة النفوذ الامريكية ،نرى موقفها من ليبيا يختلف عن موقفها في تونس ، ونرى موقفها في مصر يختلف عن موقفها من اليمن ، وهكذا بقية الدول الثائرة ، ونرى موقفها الاكثر خزيا وارباكا وخوفا من ثورة الشعب البحريني اذ رغم الهجوم العسكري الشرس ،والعدوان السافر على شعب البحرين ، من قبل ما يسمى ( درع الجزيرة ) ومحاولة حكومة البحرين ومعها حكومات الخليج العربي الاخرى خنق وقتل ثورة الشعب البحريني ، نرى في المقابل الصمت الامريكي ازاء هذا العدوان الوحشي ، وكذلك دوائر النفوذ الامريكية في المنطقة ، ومحاولة هذه الدوائر تبرير وشرعنة هذا العدوان ،والملفت للنظر تفسير وتبرير هذه الدوائر في دعمها لهذه الانظمة البالية التي تجاوزها الزمن ،واصبحت من الماضي ، لكن دوائر القرار الامريكي تحاول اعطاءها جرعات الحياة وهي تعيش في غيبوبة الموت ،اذ تقول هذه الدوائر ومنها مراكز الدراسات الامريكية والغربية ،والشخصيات المنظّرة والعاملة في مراكز الدراسات السياسية والاعلامية ، ان الشعوب العربية تعيش حالة التخلف ، فهي غير مهيئة لممارسة الحرية والديمقراطية ، فأمريكا في هذه الحالة هي مع الحكام في حجب الحرية والديمقراطية عن الشعوب العربية ،لان هذه الشعوب تعيش حالة التخلف ،حسب الادعاء الامريكي ، ولا يسأل الامريكان انفسهم من الذي صنع حالة التخلف هذه ؟ومن له مصلحة في استمرارها ؟اليس الحكام المدعومون من امريكا هم السبب في صنع هذا التخلف ؟ وهم اصحاب المصلحة في استمراره !
فأستمرار هؤلاء الحكام في التسلط على رقاب شعوبهم هو نقيض التقدم والتطور لهذه الشعوب ،وهم قرين هذا التخلف ، وكلما تقدمت الشعوب في سلم الحضارة والتطور ، كلما اقتربت وتناقصت ايام السلاطين والملوك المتسلطين على شعوبهم بالقهر والقوة ، لهذا لا نتعجب عندما نسمع او نقرأ عن احد الباحثين والكتاب الاميركان عندما يقول (( تبدو الانظمة العربية الحالية اكثر تقدمية واستنارة من الشعوب التي تحكمها )) فهذا الكاتب الامريكي وهو فريد زكريا الهندي الاصل ليس رجلا عاديا ، بل له ولامثاله من الكتاب تأثير في مراكز القرار الامريكي ، من خلال دراساتهم وآرائهم ، فهو رئيس التحرير الاداري للمجلة الامريكية ( شؤون خارجية – foreign affairs)قبل ان يتحول الى محرر في مجلة نيوز ويك (news week)والمشرف على طبعتها الدولية هذا الرجل يريد ان يقول ان الشعوب العربية متخلفة ولا تستطيع ممارسة الحرية والديمقراطية ، والحل عنده هو (( تثقيف الشعب وتعليمه وتنويره ورفع مستواه المعيشي لكي يصبح ناضجا للديمقراطية او الممارسة الديمقراطية يوم ما )) ولكن متى يأتي هذا اليوم؟اذ وجود هؤلاء الحكام في السلطة يعرقل ويمنع تقدم الشعوب ، ولا يسعى للتطوير الا الحكومات المنبثقة بطريقة ديمقراطية من رحم هذه الشعوب المنكوبة بحكامها ،ويطرح الباحث الامريكي فريد زكريا سببا اخر في منع الشعوب العربية من ممارسة الديمقراطية ،اذ يطرح شعار بعض قادة الثورة الفرنسية (( لا حرية لاعداء الحرية )) وهو يطرح شعارا على غرار هذا الشعار (( لا ديمقراطية لاعداء الديمقراطية )) ، اذ يعتقد ان الشعب الذي يمارس الديمقراطية ، ويعطى الحرية لممارستها وهو غير مهيأ لذلك قد تقود هذه الممارسة الى مصادرة الحرية ،عندما يفوز شخص او طبقة اوحزب لا يؤمن بالعملية الديمقراطية ، وبالتالي يتسلق عن طريق سلم الديمقراطية الى الحكم ، فاذا حقق هذا الهدف ، صادر الحريات ، ومنع الممارسة الديمقراطية فعنده (( الديمقراطية لا تعني الحرية بالضرورة )) ، فالديمقراطية عند الامريكان هي ليست الحل بالنسبة للشعوب العربية ،لان الامريكان يعتقدون ان ممارسة الديمقراطية بصورتها السليمة والصحيحة قد تقود الى نتائج عكسية ، فتولد الديكتاتورية او العنصرية اوالطائفية او التطرف ، ويضرب فريد زكريا مثالا على ذلك بالتجربة الجزائرية عام 1991 التي فازت فيها جبهة الانقاذ الجزائرية ، لانها عند الامريكان من الحركات الارهابية ،لذا تدخل الجيش الجزائري بأيعاز من دوائر خارجية واوقف العملية الانتخابية ، وصادر نتائج الانتخابات ، وهم يعتبرون ذلك انما جرى لمصلحة الشعب الجزائري ،ونحن هذه الايام نعيش ثورات الشعوب العربية المنتفضة على حكامها بعد ان سئمت من ظلمهم وتجبرهم ،نرى السياسة الامريكية المتخوفة المرتبكة والمتناقضة من هذه الثورات ،نرى امريكا يختلف موقفها من بلد الى آخر ،حسب مقتضيات المصلحة ، وفي رأينا ان الموقف الامريكي لا ينطلق من مصلحة الشعوب ،انما من مصلحتها ومصلحة حلفائها ،فهي عندما تصبح امام امر واقع للحاكم الذي يدور في فلكها ، تتظاهر انها مع الشعب الثائر في طموحه لتحقيق الحرية والديمقراطية ،وهي تتحرك في الخفاء واحيانا في العلن للالتفاف على الثورة ومصادرة نتائجها ، بايجاد البديل المقبول عندها ،لهذا نراهم يلّفون ويدورون لاجل ايجاد البديل الذي يتحرك تحت المظلة الامريكية ، واذا لاحظوا ان الشعب سيمتلك زمام القيادة ، عندها سيخلقون المعوقات والمطبات الكثيرة حتى يعطلوا الارادة الشعبية الثائرة ،فيخلقون مبررات شتى ، منها ان الاصوليين ويعنون بهم المتطرفين قد يستلمون السلطة ، فيقودون البلاد الى التطرف والعنف ، ولا ارى هذه الحجة الا مبررا لاحتواء الثورات ومصادرة نتائجها ،والتمهيد بمجئ الحاكم البديل الذي يدور ضمن النفوذ الامريكي ، ويعمل لتأمين مصالحهم ومصالح الكيان الصهيوني ،والملفت للانتباه ان الامريكان والمعسكر الغربي يبذلون الجهود لتأسيس الديمقراطية الطائفية ، وخلق المحاصصة ، وتقسيم الشعب الواحد الى طوائف واحزاب متقاطعة لا تجمعها المصلحة الوطنية بل يعملون وفق مصالح حزبيه ضيقة ، وفي هذا النوع من الديمقراطية يوجد خدمة للمصالح الغربية ، حيث يظهر البلد الذي يعيش مثل هذه الديمقراطية كما في لبنان ، ويحاولون تأسيسها في العراق ، تظهره بلدا ضعيفا متناحرابين قومياته واديانه ومذاهبه واحزابه ،ومحتاجا على الدوام لمساعدتهم ، وهذا ما يبغونه ،اذن على الشعوب الثائرة ان تعي هذه اللعبة الامريكية الغربية ، وان لا تسمح بمصادرة نتائج ثوراتها ، وتفرض ارادتها في التغيير ، ولا يخفى على الشعوب الثائرة ان المتضرر الوحيد من هذه الثورا ت اذاما تحققت نتائجها المرجوة ، هو امريكا والمعسكر الغربي وكذلك الكيان الصهيوني ،فأنهم سيخسرون الكثير من مصالحم ونفوذهم ،فالتخوف الامريكي من هذه الثورات له ما يبرره بالنسبة اليهم ، وما الادعاء الامريكي بالتخوف من سيطرة المتطرفين على الحكم بسبب هذه الثورات ليس صحيحا ، لان الشعوب ايضا ترفض التطرف والعنف الذي يتبناه هؤلاء المتطرفون ، والشعوب هي التي تعاني من نتائج هذا التطرف ، وان كنا لا ننفي عدم مشاركة مجموعات من المتطرفين في صفوف الثوار ، ولكن هذا لا يعني سيطرتهم على نتائج الثورة ،لان الشعوب الثائرة لا تسمح بان تذهب نتائج ثوراتها الى المتطرفين الذين هم مرفوضون اصلا من الشعوب حيث شّوهوا سمعة الاسلام الاصيل ،والمتطرفون لا يختلفون عن الحكام الحاليين الذين تعيش بلدانهم الثورة ضدهم ، في القهر والقسوة ، والاستهانة بحقوق الانسان والحريات والحياة الحرة الكريمة والتداول السلمي للسلطة ، فالسلاطين والملوك وزعماء الانقلابات لا يعترفون بأي تداول سلمي للسلطة ، وينادون ايضا بالديقراطية ، لكنها الديمقراطية الورقية التي تؤسس للحكم الدكتاتوري والحكم الوراثي،اذن فالتخوف الامريكي ليس من اجل مصلحة الشعوب بل من اجل المستقبل الامريكي والكيان الصهيوني في المنطقة .
|