• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : إرحموا عزيز قومٍ ذل .
                          • الكاتب : مرتضى الحسيني .

إرحموا عزيز قومٍ ذل

 هذه العبارة لطالما راودتني أياماً في طفولتي، فترانيمها كانت تخرج من زنزانة سماحة الأب. حينها كنتُ لا أفقه لِمَ  يردد تلك الكلمات ؟! فلا أثر وضعي لها إلّا احساس يشعرني بأنها ترنيمة الضمأ.
فأبي المكبل اليدين كان لا يستطيع أن يظفر بشربة ماء سوى ما أحمله له خلسة متجاوزاً بذلك الحراس لأسقيه الرشفة أو الرشفتين.. أنظر لعينيه المتلألئتَين وكإني السياب في قصيدة المطر. ما إن يتفطن الحراس حتى يهيلوا عليّ بتقبيل رأسي وظهري بأرجلهم.
أركض.. والألم يغرز انيابه في جسمي. أصرخ وأصرخ.. وكإني آذن لوالدي أن يكرر الترنيمة ذاتها؛ لتشعرني بالدفء والضمأ..
نعم، هكذا أمسى أبي، كل ما يريده كفاً من الماء ليروي بها الخمسة من السبعة (جعفر ، حسين ، كاظم ، علي ، حسن)؛ فرحيلهم في ليلة غياب القمر قد أرهقه..
يا لها من ليلة؟! واتمامي الخريف السادس لم يمنعني من إدراك عتمتها.. ليلةٌ لفّت جميع بيوتنا إلا حديقتي .. فلم تزرها الطائرات و الدبابات، ولم تقبل جدرانها الشفلات؛ لانشغالهن ببيوت أعمامي السبعة..
كنتُ فرحاً بابن عمي صادق، ولم آبه لصرخات أمي و أبي وعماتي وبناتهن؛ فصادق يحبني وأحب اللعب معه..
وفي حينها وافقتُ على أن أبدل حديقة بيتنا التي تزينها أشجار التين والبرتقال والرمان ـ وكم كان طعمه لذيذاً ـ والزهور والأوراد بأخرى يغمرها الدم، طرقاتُها كأنها خارطة العراق بأجزائها الحمراء.. السليمانية ودهوك والنجف وكربلاء وديالى...
وما زلتُ  العب مع صادق.. وكانت لعبتنا الجديدة هي التباري بوضع أعناقنا تحت المقصلة ومن يضع عنقه أولاً فعلى الخاسر أن يأرجحه بالسلاسل التي كانت متوفرة بكثرة في حديقتنا الجديدة..
يوم الاربعاء كان يوم سعدنا؛ إذ كنا نصارع الحراس لنفرح بسرقة بقايا الخبز من المزبلة؛ فاليوم هو يوم المواجهة..
كانت أمنيتي آنذاك شرب قدحٍ من الشاي.. أبكي و أبكي.. أصرخ وأصرخ.. وأمي لم تحرك إلّا الدموع، كم كرهتُ امي؟!
فتشفق اختي المُقعَدة عليّ لتراقصني وأراقصها، وكنا لا يمنعنا ضرب الحراس المتكرر من الرقص..
نتقلب بالزنزانات لأشاهد العراق كله يزورنا أياماً، ثم لا أعود اتذكر منه إلا آل الحكيم.. كم احب آل الحكيم؟! اعطوني قبل رحيلهم قضمة من البطيخ، نكهتها لا تفارقني إلى يومي هذا..
ذات يوم سحبوا أمي لتصلي أمام أبي حمزة، وأخبرها: إن زادت ترنيمة زوجك نرجعك وأطفالك للبيت، وليعبثْ بزهور حديقته، ودنا اصبعه مني.. وما ان سمعت بالرجوع حتى أخذ الفرح يتأرجح في عيني، قلبي يهتف: سأرجع سأرجع للبيت !!
هكذا هي دقات قلبي التي شغلتني عن رفض أمي لهذا العرض ، لأني لم أكن أدرك حينها أن الرجوع معناه الضغط على أمي وأبي لينفصلا عن بعضهما بطلاق أو ما شابه ..
بكيتُ و عاتبت أمي أياماً وأياماً، لماذا لا تقبلين ان أعود لحديقتي والعب فيها؟! أقسمتُ لها بأني لن اعبث بالزهور، ولن اتسلق شجرة التين.. قلتُ لها: هل يرضيك ان صديقي أوميد ـ كردي القومية ـ يتجاوز على الخط الفاصل لبيتي؟ فأبو حمزة هو من فصل الدارَين  يااا أمي، بطبشور صنعه من ثرى الزنزانة.. لماذا يُوسع دارَه ويتجاوز على خطي؟ لماذا يا أمي؟! أحبه فيستغلني؟! فلم ترد إلّا بالدموع، بل طلبت مني حفظ الأدعية وترديدها كل يوم الف مرة، يا مجير.. نادِ علياً.. ووو.. كم أكره أمي؟!
صادق يصرخ بصوت ممزوج بالخوف: إنه يوم الرحيل، هكذا قيل لي.. والأمارة بين العودة واللاعودة هي نوع السيارة.. انها السيارة المكشوفة، وجعفر الكردي ـ الذي كان يسبقني في جميع الألعاب حتى لعبة الغميضة ـ يهتف لنا ويرقص بيديه بعدما سلبوا رجليه و جميع اخوته..
سارت بنا السيارة متراقصة، وكأن دقات قلوبنا هي من تقود.. انها مدينتنا .. هكذا هتف الجميع .. إلّا انا كنت انتظر أن أشم زهر البنفسج في حديقتي..
صرخ ابو حمزة: الكفيل اولاً !
أمسى ابي يتنقل بين أبواب لها ذكريات، فصديقه محسن، وصديقه محمد، وصديقه، وصديقه.. ويقلّب الوان الأبواب بين الاحمر و الابيض و الاسود و الاخضر. آه.. ـ الله اكبر ـ،  ويردد بين انفاسه تلك الترنيمة: (إرحموا عزيز قومٍ ذل).
صرختُ بوجه ابي:  صااادق عبث بحديقتي..! تبسم في وجهي، وهمس في اذني: (ستشم النرجس). رجع قلبي يدق ويدق، "متى؟.. متى؟.." قال لي: الفرج قريب ان شاء الله.
واول شيء فعلته بعد الفرج، قبلتُ جدار بيتي، و هرعتُ اسابق صادق بأكل الرمان، و ارقص حول شجرة التين لايام و ايام، حتى شعرتُ بالغربة مرة أخرى، فلم يبق لي شيء فيه.. فغرفتي اخذتها عمتي فلانة، وغرفة اخي اخذتها عمتي فلانة، والهول ..، ووو...، لم يبق إلا غرفة ابي.. والبكاء والنياح  يلتف في البيت كله، عمتي تبكي، وتلك تبكي، و امي تبكي.. كم اكره امي لانها تبكي ؟!
كان علينا أنا واخي جمع الخبز من فتات الدراهم التي نحصل عليها من بعض الدبابيس والمناديل، وكنا نهرب من حجارة أبرهة، ومن أصوات كانت تنادينا: خمينية خمينية ، والتي يصدع إلى الآن صداها في رأسي، وما زالتْ الترنيمة في حديقتي نرددها: (إرحموا عزيز قوم ذل).

رضاااا ـ زوجتي فاطمة تناديني ـ ..
بلي ..
هل نمتَ ؟!
لا.. كنتُ اتجول في ذاكرتي  ...
رضاااا هل ترى كم عدد الاطفال في طريق النجف كربلاء ـ يا حسين ـ؟! انهم من تلعفر !! والموصل، وكركوك، وصلاح الدين، والرمادي.. من الكرد، والعرب، والتركمان، والشبك المسيح، واليزيدية، والمسلمين الشيعة ، والسنة.
نعم.. يذكروني بـ: (كم احب امي ؟!).
 


كافة التعليقات (عدد : 1)


• (1) - كتب : طارق زيد ، في 2014/08/15 .

ااااااااااااااااه مؤلم جداً .... انت تؤلمني مراراً و تكراراً بكتاباتك المشفرة و توقضني من حلم جميل أحاول عيشه وتجبرني على رؤية واقع أحاول نسيانه وذكريات ليست جميلة أحاول الإبتعاد عنها ... ماذا سيحدث لو عشنا بلا ماضي اااااااااه كم أتمنى نسيانه كم أتمنى ولو ليوم أن لا أتحدث عنه .... نعم أنا أحب أمي ولكن لا أعرف أبي على عكسك تماماً .... أحياناً أفكر إنها نعمة
حاولت تجاهل المضمون الآخر لأنه أكثر ألما



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=49777
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 08 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12