لا يعتري عاقلان الشك بأن تماسك التحالف الوطني العراقي في هذه المرحلة يؤثر ايجاباً على عافية العملية السياسية برّمتها، والعكس صحيح، بمعنى ان هذا التماسك يرتقي لأن يكون ضامناً وصمام أمان لديمومة العملية السياسية، وأي تصدّع أو تعطيل لدوره يضيف في رصيد المتربصين بتلك العملية، ويفتح الباب على مصراعيه لخيارات؛ أيسرها دخول البلاد في دوامة الشلل السياسي الذي لن يتمناه أي حريص على وطنه.
يجمع النبض الشعبي العام، ومن ضمنه طبعاً من أعطوا أصواتهم لمجمل الكتل والكيانات المشكّلة للتحالف الوطني، بأن الفريضة الأسمى اليوم هي وحدة الصف وتماسك المواقف، للارتقاء الى مستوى التحديات المتعاظمة، وهذا مطلب المرجعية العليا الصريح ايضا، والتي لها اليد البيضاء وقصب السبق في تسديد العملية السياسية ومسيرة التحالف، رفداً وتصويباً وارشاداً، وكان هذا يمهد دوماً للدعم الشعبي اللازم -كرقم صعب- في معادلة الحياة السياسية، مثلما كان لمقام المرجعية العليا الرؤية الثاقبة في رسم معالم المرحلة التي نمر بها جميعا.
وإذا كانت التحديات الراهنة التي تمر بها البلاد تستدعي رصّ الصفوف، وتكاتفاً شعبياً مع الحضور الفاعل، فمن الأوْلى أن يجاريه -أو يسبقه- انسجاماً في مواقف النخب السياسية، لترتفع الى مستوى تلك التحديات، مقرونة بتوافقات وطنية، وإرادات صادقة لتوظيف كل جهد في مهمة إنقاذ العراق من براثن العدوان الإرهابي المستمر أولاً، وانتشال الوضع العام من حالة التخبط التي سادت في الشق السياسي في الفترة الأخيرة ثانياً، خصوصاً بعد تداعيات نكبة الموصل، وهذه الحقيقة لا مجال لإنكارها.
ان قوة شعبية هائلة وطاقة متنامية قد تشكلت تلبية لنداء الوطن ونداء المرجعية العليا بُعيد العدوان الإرهابي ونكبة الموصل، هذه القوة يمكن أن تتصدع وتتبدد -لا سمح الله- نتيجة للرسائل السلبية التي خلّفتها مخرجات (اللا توافق) في مواقف التحالف الوطني إزاء ملفات مصيرية، كتسمية رئيس الوزراء، والتي كان الأداء فيها مربكاً ولا يوحي -على الأقل- بذلك التماسك المنشود، والذي على أساسه كان الدعم الشعبي قائماً حين الانتخابات النيابية، ثم جاء تكليف السيد حيدر العبادي كمرشح التحالف الوطني، ليزيد في شقة الخلاف، الذي كان يُدار في الأروقة أساساً! مع الأخذ بأن جميع أطراف التحالف له تفسيراته وتبريراته لما حصل.
ثمة حقيقة حاضرة، وهي ان إضعاف الزخم الشعبي -المشار اليه- في هذه المرحلة، التي يحتاج فيها العراق الى أي جهد وطني مضحٍّ، سيعني فيما يعني التفريط بسلاح ستراتيجي في المعركة ضد الارهاب، وللمرء أن يتصور خطورة النتائج المترتبة، وبعبارة أدّق، ان صون هذا الزخم الشعبي المسدّد بالمرجعية العليا، وبالحق الوطني في دحر العدوان وإنقاذ البلاد، لهو أقدس وأنبل وأعظم شأناً من مكتسبات هذا الفريق السياسي أو ذاك، ونيل هذا الموقع أو خسارته!
ان الأنظمة الديموقراطية تتوقع دوماً حصول إخفاقات أو أخطاء أو أزمات في مسيرة العمل السياسي في الظروف الطبيعية، لكنها لا تحولها الى (احتراب سياسي) أو تسجيل نقاط ضد الخصوم، لأنها بالتالي تؤول الى (تهديم المعبد فوق رؤوس الجميع)، فما بالك اذا كانت الظروف غير طبيعية، وحالة الحرب قائمة بفعل عدوان همجي يحمل مشروع إبادة، والمطلوب إنقاذ البلاد والحيلولة دون تمدد رقعة الارهاب، في هذه الحالة تكون الفريضة المقدسة رصّ الصفوف، وتحصين الجبهة الداخلية من كل ما يهدد تماسكها، إضافة الى تكريس أوامر وإرشادات المرجعية العليا الى واقع عملي، لا مجرد نصوص نتبرك بها.
واجه الشارع العراقي استحقاقاً آخر منذ تكليف السيد العبادي بتشكيل كابينته الوزارية قبل عدة أيام، وأنسحب ذلك على انقسام في الآراء كان متوقعاً، وكان متوقعاً معه ايضا ردة الفعل من قبل السيد المالكي ومؤازريه من ائتلاف دولة القانون، وأنحصر السجال بالتباين في تفسير المادة الدستورية رقم 76، كما صرّح الجميع -تقريباً- بأن تفسير (الطرف الآخر) غير قانوني، ولا يتوافق مع السياق الدستوري! الى هنا يمكن القول أن المشكلة أو (المطب) أخذ بُعداً دستورياً، وبحاجة الى حسم سريع، وهذا الحسم تنهض به -كما ينص الدستور- المحكمة الاتحادية العليا، والتي استلمت بدورها أمس الاربعاء شكوى السيد المالكي بهذا الصدد، لذا من المنطق والحكمة أن تتوقف السجالات ولغة التصعيد، حتى تصدر المحكمة رأيها الذي ينبغي أن يكون موضع احترام الجميع، ونكون قد أبطلنا مفعول الصاعق الذي كان يهدد سير العملية السياسية، وتحديداً موضوع التكليف، ومن ثم يكون التوجه -بفرض احترام النتائج من الجميع- بترميم علاقات الأطراف في التحالف الوطني بأسرع ما يمكن. ولقائل يقول كيف السبيل الى ذلك في ظل كل تلك السجالات والاتهامات والتقوّلات والافرازات؟ الجواب هو ان الكل سيكون خاسرا، وقبلهم الوطن، لو أستمر الحال كما كان!
لقد أثبتت تجارب التحالف الوطني طوال السنوات السابقة، بأنه لا خيار لديه سوى التوجه نحو التوافقات الداخلية، وتقديم التنازلات الصعبة من كل الأطراف اذا استدعت التحديات، وان يبذل الجميع أقصى الجهود نحو تغليب المصالح العليا على المصالح الفئوية والشخصية، لأن خرق السفينة في أي ظرف يعني إغراقها!
خيار التسويات في الأزمات هو خيار متبّع في السياسة المعاصرة على نطاق واسع، بل انه -حسب رأي المنظّرين- أحد أعمدة العمل السياسي، مع ملاحظة ان هذا المفهوم له وقع سلبي في السياسة العربية، بفعل التسوية المهينة لبعض الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني، ولكن هذا لا ينسحب على المصطلح وتكريسه في السياسة عموما، فالكثير من التسويات (هنا مرادنا الداخلية) جنَّبت الدول مآزق وويلات، والأمثلة أكثر من أن تحصى، وفي التحدي الذي نحن بصدده الآن، يمكن لأطراف التحالف أن تلجأ الى تسوية لإنقاذ الوضع من التعقيد والتأزم، والتفرغ لمهام الحكومة التي يُنتظر منها الكثير، مثلما تَنتظر هي من الجميع أن يؤازروها، والتسوية المعنية -لو تمّت- لن تنتج رابحاً أو خاسراً، بل الجميع رابحين، لأن الوطن هو الرابح الأكبر بتماسكهم وعبورهم المنعطف بوعي المبصر بالخطر الذي يهدد الجميع.
لا يمكن الخوض في ملفات التسوية وحجمها وحيثياتها عبر الإعلام، لأنها تحتاج الى أجواء مناسبة بعيدة عن التصعيد والتكهن والتقوّل، وينبغي أن لا تكون جولاتها ماراثونية، اذ الوقت ليس في صالح الجميع، والكل يعرف بعد هذه السنين ما يرتئيه الطرف المقابل، والكل ينبغي أن يكون مستعداً للتنازل للعراق، لا الى فئة أو كتلة أو شخص، وهذا ما ينتظره المواطن من أطراف التحالف الوطني، مثلما ينتظره من كل الأطراف الأخرى، وهذا هو التحدي الأكبر، وعلى المعنيين أن يكونوا بمستوى هذا التحدي في هذه الأوقات العصيبة.
كما ان الكل يراهن على وطنية أعضاء التحالف الوطني، وارتقائهم لمستوى التآخي ونبذ الخلافات ورأب التصدعات، وتصفير النقاط المسجلة ضد بعضهم البعض، فالضمير الوطني يؤذّن "حيّ على حب الوطن".
حفِظ الله العراق.
|