كنت في لقاء على مائدة الإفطار مع زميل يحمل قلبا ينبض بالمحبة والألفة والأمل , ويتوكأ على إرادته الإنسانية الثاقبة , ويسعى بما أوتي من قوة وهمّة , لتنوير الفضاء الذي يحلّ فيه بالأفكار السامية الرائعة الواعدة.
وقد مارس طب العيون حتى تقاعده , وبعد أن أمضى عقودا في مساعدة الناس على النظر بعيونهم , أدرك أن من واجبه الأسمى أن يساعدهم على الإبصار بعقولهم , فوهب نفسه للثقافة والمعرفة , وراح يبحث في بطون الكتب عن جواهر الأفكار الحضارية النافعة للأجيال.
ودار حديث بينا عمّا جرى بعد سقوط الحكم الملكي في العراق ,
فقال: كنت أدْرس الطب في ألمانيا آنذاك , وفي ذلك اليوم تصدرالخبر الصحف الألمانية , وكان العنوان " بلاد الحضارات تمارس سلوك العصور المظلمة"!!
ويبدو أن الألمان قد أدركوا أن العراق قد دخل العصور المظلمة بممارسته لسلوكياتها.
تأملت قوله , وما جرى بعد ذلك من أفعال يندى لها جبين التأريخ والإنسانية والقيم والأخلاق والدين , حيث تحقق قتل الأخ لأخيه لأسباب سياسية بحتة , وإن ألبسوها ما لا يحصى من عناوين ومسميات.
فالبشر تعلم القتل لأسباب سياسية صرفة , حيث يتم صناعة الأحزاب اللازمة لمحق بعضها البعض وليس للتفاعل الوطني الإيجابي , فنشأت أحزاب قومية وماركسية ودينية , وما وجد حزب وطني واحد , وإنما أحزاب تفرقة وإحتراب وإنمحاق.
وكل حزب يفتك بالحزب الآخر , وكل حزب يستلم السلطة ينتقم من الحزب الذي كان فيها , وهكذا مضت الأحوال حتى اليوم , أحزاب تجتث أحزابا وتفترس أحزابا!!
هكذا بدت الصورة التي أثارها زميلي , من ألمانيا الخارجة من الحرب العالمية الثانية منهزمة مدمرة , وأمامي شاهد حي على أنه كان يدرس الطب فيها بعد إنتهاء الحرب بعشرة سنوات وسنة , فأية شعوب هذه , التي تنهض من ركام الأهوال بهذه السرعة؟!!
وتأملوا أحوالنا , بعد أكثر من عشرة سنوات من إدعاء الديمقراطية , وما أنجزنا إلا الدمار والخراب والإحتراب , ولا زلنا في ناعور إجتثاث بعضنا , وإختراع لافتات وتوصيفات تجيز لنا تدمير البلاد والعباد , وتساهم في تكريه البشرية بنا وبديننا , لما نقترفه من مآثم بعقلية العصور المظلمة.
قلت لزميلي: لقد صدق الألمان قولهم فينا , صبيحة ذلك اليوم من عام 1958 , فنحن لا نزال في العصور المظلمة , ونعبّر عن رؤيتها بسلوكنا.
قال: إن الأمل لا بد له أن يزور هذه البلاد , فالتأريخ يحدثنا على أنها مرّت بأعتى مما تمر به اليوم , وكم تعافت من أعاصير الويلات وعواصف التداعيات.
وإن النور لا بد له أن يزيل ظلام العقول!
وأضاف: إن الكلمة يمكنها أن تنير دياجير الأفهام!!
أدركت في زميلي العودة للكتابة , لأنه قد أتصل بي بعد الأحداث الأخيرة ورأى أنه لن يكتب , فالناس في غياهب الظلماء والويلاء , ولن يكترثوا بالثقافة.
قلت له حينها: لابد للأقلام أن تتحدى اليأس والبؤس والشقاء , وتبث وميض الأمل وإرادة الحياة في أعماق البشر , فقوانين الأرض والأكوان والإنسان لا تتفق وما يحصل في بلادٍ ذات رافدين , وروافد حضارية فكرية معاصرة متنوعة , نتمنى أن تساهم في إنتشال البلاد والعباد من حفر البهتان والتضليل والخداع والتنكيل , ولن يقبل العراق إلا بوجوده العزيز!!
قال: الأمل يحدونا دوما!!
وودعته وأنا أنظر فيه أملا , وأقرأ صيرورة أخرى لعراق جديد!! |