السر الرابع: زائر الحسين يعيش هم المستضعفين:
إنَّ الإنسان تكون خواطره دائما وقلبه تحوم حول اهتمامات المعيشة أو حول اهتمامات ذاته من أن هذا آذاني أو يبغضني أو هذا يحبني، والمهم أنها تدور حول الأنا التي نسميها بالأنانية أو فرعونية الذات أو النفس، وإذا ترك الإنسان هكذا فسوف يعيش هموم نفسه ليل ونهار، ولكن إذا تعلق الإنسان وانجذب في سيد الشهداء(ع) أكثر وعاش هم الحسين لا هم نفسه وكان هذا الإنجذاب بحب وبشفافية فسوف يعيش هم الحسين(ع) وليس هم نفسه من أنه كيف ظلم، ومتى ينتقم الله تعالى له، ومتى ينجز الله وعده على يد الحسين(ع) أو ولده المهدي# ويقيما دولة العدل وهكذا.
إذن هناك فرق بين هذين الهمين اللذان هما هم نفسه وهم الحسين(ع) فإذا عاش هم الحسين(ع) فبالتالي سوف يعيش هم الدين، وهم علو كلمة الإسلام، علو كلمة الإيمان، علو كلمة الحق والعدل، علو نور أهل بيت النبوة، فأين هذا الهم بالقياس إلى هم الإنسان المتقوقع والمتقزم في دائرة نفسه.
فإن كثرة ذكر سيد الشهداء(ع) يرقي الإنسان من حضيض أنانية النفس إلى أوج أهداف الدين النورانية، ومن أقصر الطرق لطيران الإنسان في همه من حضيض نفسه إلى أوج نور الإيمان والولاية هو انجذابه للحسين(ع) وبالتالي سوف يورث الخلوص والإخلاص العظيم الموجود في الإنسان ويحرره من هذه التعلقات النفسانية التي في ذاته، وهذا السر نراه في مشاية زيارة الأربعين، فإنهم ـ لا أقل في زيارة الأربعين ـ يخرجون من كونهم بشراُ إلى ملائكة خلقاً وأدباً وإيثاراً وتسامحاً. لأنهم يعيشون هم الحسين(ع) بدل أن يعيشوا همهم وهذا مما يقلب ويصهر جوهر ذاتهم إلى الفضاء الرحم النوري والأخروي الإلهي بتوسط الحسين(ع) فلا تحدث أي حادثة في طريق الحسين(ع) لأن الحادثة إنما تقع متى ما كانت النفوس ضيقة وحريصة وذات أطماع، أما إذا كانت تلك النفوس عالية الهمة فلا يحدث بينهما أي اصطكاك أو عراك.
ومن هنا سوف يكون الحسين(ع) قبلة وكعبة القلوب وليس قبلة الأبدان، فإن طافت القلوب بهذه المصيبة الراتبة وطافت حول كعبة روح الحسين فهي قد وصلت إلى الله عَزَّ وَجَلَّ كما روي عن أبي الحسن الرضا(ع) «من زار قبر أبي عبدالله(ع) بشط الفرات كان كمن زار الله فوق عرشه»([1]).
لأن الحسين(ع) هو متفاني في الله عَزَّ وَجَلَّ وذائب فيه، فمن يذوب في من ذاب في الله عَزَّ وَجَلَّ فسوف يذوب في الله عَزَّ وَجَلَّ، ومن يفد على الحسين(ع) فهو يفد على الله عَزَّ وَجَلَّ لأن سيد الشهداء سوف يوصله إلى الساحة الإلهية، وبالتالي سوف يعيش هم الدين وهم المظلومين وهم المستضعفين وهم المحرومين.
السر الخامس: كتاب أسمه الحسين:
إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قدَّر أنْ يكون الحسين(ع) مصدراً وملجأ ومركزاً ليس لإصلاح المؤمنين فقط بل لعموم البشر ومن ثم قدر أن علمه يبقى على مدى الأيام يرفرف على كل المظلومين والمستضعفين كما صرحت بطلة كربلاء(ع) بذلك وهي تخاطب سيد الساجدين(ع)… «وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يمحي رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد اثره إلا علواً..» ([2]).
وهذا معناه أن الباري لكي يستصلح البشرية في مرحلة الإصلاح والاستصلاح في طريق الكمال لابدَّ أن تمر في مدرسة الحسين، ولابدَّ أن تتعرف كل البشرية على سيد الشهداء(ع) لتعلم أن هناك حل بين جذبات وغرائز النفس الخسيسة النازلة وبين إمكانية التغلب على كل هذه التعلقات في أي ظروف وفي أي بيئات إلى الطيران نحو نور الكمال ونور الصلاح والإصلاح والفضائل، وهذا مثل إلهي عظيم أراد الله أن تبقى شجرة زيتونة مباركة كنور لجميع البشرية، ولذلك لابد أن يبقى ذكر الحسين(ع) يعبأ ويشحذ بصورة أكثر وأكثر حتى يصل شعاعه إلى كل البشرية، فلا يخمد ولا يطفأ ولا يحجب.
فهذه التعبئة وهذا الشحذ الكبير حتّى من المؤمنين التي نظرتهم ضيقة وأفقهم ضيق وإن كانوا ينجذبون في واقعهم إلى الحسين(ع) ولكن في بعض الأحيان تخالجهم هذه الأمور الضيقة، وهو لا يدري أن هذا العَلم قد قدر الله له أن يرفرف على كل البشرية كما في راية الحسين(ع)، وراية ظهور المهدي# لأنَّها راية نبراس تستضيء به نفوس البشر ودول البشر كلها لاستصلاحهم، فليس في التقدير الإلهي أنَّ الحسين يستصلح مقتصراً على فئات قليلة في بلدان الشرق الأوسط بل قدر الله تعالى أن يكون الحسين(ع) مصلح لكل البشر حتى قبل ولده الموعود المنتظر# فإنه من الطبيعي أن الله لا يخمد هذا العلم بل كل يوم يزداد اتساعاً وتعبئة ليصل صداه وتصل هذه النعمة العظيمة لكل العالم كمأدبة نورية تستضيء بها البشرية بأجمعها، إذ أنه إلى الآن لم تصل إلى كل البشرية، فنحن إلى الآن لم نقم بحق ما تستحقه هذه الشجرة النورية بكل أغصانها من إعلام ومن إحياء ومن فضائل مجلجلة ومن روح نورية جذابة، فالمفروض أن يشاركنا كل البشر في التنعم بها، وإلا فنكون نحن سبب من أسباب حرمانهم.
ولهذا فإن البشرية إذا أرادت أن تتكامل وتسعد فلابدَّ لها أن تقرأ كتاب أسمه الحسين(ع)، ولابد أن تتعلم في صف أسمه الحسين(ع) ولابدَّ أن تمر بمرحلة من مراحل فكرها وعقلها وروحها بمرحلة أسمها الحسين(ع) حتى تصل إلى الحسن ثم فاطمة ثم علي ثم رسول الله’ الذين هم رأس الخيمة لمشروع الإمام المهدي#.
أرواحكم في الأرواح:
فإن كل روح لها علاجات، وكل بدن له علاجات وقد قدر الله عَزَّ وَجَلَّ أن تكون حقيقة الحسين(ع) بما فيها من جمال وكمال وفضائل هي من العلاجات التي «أرواحكم في الأرواح وأنفسكم في النفوس وأجسادكم في الأجساد»([3]).
وهذا يعني أن كل نفس لابد أن تتغذى بهذا المنبع الروحي، وإلا فلن يكون للنفس توازن، وبصيرة ونور وتكامل، وهذا شبيه ماهو موجود في علم الرياضيات حيث أنه لا يمكن أن يتخطى أي مرحلة من المراحل التي قبل ذلك لأن كل مرحلة قوام في علم الرياضيات، والنفس في علم الفطرة هكذا، فلابد لهذه الأنوار الخمسة التي أكد عليها القرآن في سورة النور أن تضيء لكل فطرة روحية، ولابد أن تتلقاه وإلا فلا يمكن أن تتوازن ولن تسعد ولن تتكامل ولن تصل إلى الفضائل فإن مصباح الهدى وسفينة النجاة ليس لمجتمع خاص بل لكل البشرية ولكل الأجيال، وهذا ما صرح به النبي’ «إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»([4])، ومعنى هذا أن الله أعظم الحسين(ع) أن يقتصر ويكون لقرن أو قرنين من الزمن، أو لمنطقة الشرق الأوسط بل قدر سبحانه وتعالى أن يكون هذا عطاء منه لكل البشر «فلا يزداد أثره إلا علواً».
([1]) كامل الزيارات: 278.
([2]) كامل الزيارات: 22.
([3]) بحار الأنوار ج99: 107 دعاء الندبة ـ والزيارة الجامعة.
([4]) مدينة المعاجز ج4: 51. |