هكذا يحدث نفسه كل صباح , وهو يدفع عربته المحملة بالخضار , ليقف مزهوا بها في شوارع المدينة , فيبيع ما يستطيعه من حمولتها ويعود إلى بيته الحزين , وفي جيبه بعض النقود التي يمكنه أن يسد بها رمق عائلة تعتمد عليه وعلى رب العباد , في مسيرته المثقلة بالهموم والأزمات.
- يا ولدي , أن الدراسة والثقافة نهايتها عربة على قارعة طريق الويلات؟
- يا أمي إن الحياة عربة لابد لنا أن ندفعها , ونحدد مسارها , ونمنحها قوتنا وما فينا من الطاقات
- ياو لدي إلى متى ستبقى تدفع العربة؟
- يا أمي , في كل يوم أقطع شوطا في دروب البقاء , وستتراكم الأشواط ذات يوم , وستؤدي إلى فسحة عيش زاهية بالأحلام.
- يا ولدي , أعانك الرب الكريم على جهادك المرير!
واستدارت والدته نحو المطبخ تبحث عن طعام , ولما لم تجد شيئا , ذهبت إلى العربة , وأحضرت منها ما اختارته من بضاعة كاسدة , وأخذت تعد طبقا تحلم أن يكون شهيا.
وفي ذات الوقت كان الولد , في إطراقٍ وإسهام , وتمعن في مفردات الأيام , وآليات التواصل والإنطلاق إلى مدينة الأمل.
قال لنفسه : أربعة سنوات من الدراسة الجامعية , والكفاح , وها أنا عاطل , أعمل كبائع متجول , منحسر بزاوية شارع , أو متجمدٍ على رصيف يحتشد بالناس , ولا أحد منهم يرنو إلى عربتي , أو يتقدم نحوي , ليساعدني , ويأسو بعض ألمي.
ما قيمة أن أدرس وأن أتعلم؟
الوطن وطني , والألم ألمي!
ما هو المستقبل؟
ومضى في رحلة الغوص الذاتي والتصور الموضوعي , لكنه لم يجد أمامه إلا خيار العربة , نعم العربة , التي أصبحت جزءً مهما من هويته وذاته وشخصيته , وسلوكه.
فما عاد يعرف معنى الصباح بدون عربة , ومن غير تواجده وسط الزحام.
وذات صباح مشرق , مكتظ بالناس , تمكن أن يبيع , ويبيع , وفي ذروة كسبه , تحاوطته الشرطة , وألقت بعربته وما فيها على الأرض , وطاردته كأنه المجرم المذنب المدان!
ولا يعرف كيف تخلى عن عربته , وكيف تحمل منظر إسقاطها وتبعثر ما فيها على الرصيف , وكيف راحت أقدام المارة تدوس بضاعته وتركلها.
لا يمكنه أن يتصور ذلك المنظر الأليم , فكأنهم قد خلعوا فؤاده , ودحرجوا ذاته , واعتقلوا مصيره في سيارة الشرطة التي تطارد الباعة المتجولين.
إنهار الولد وتمزق كيانه , وجرجر خطواته الثقيلة وعاد إلى أمه , التي ذرفت دموع الفقدان على عربة المعيشة والأمل بالبقاء.
وأمضى وقته مذهولا متجمدا لا يعرف شرابا أو طعاما , ولا تدري أمه ما تفعل , سوى البكاء.
واعتصره الليل بسهاده الأليم.
وما أن جاء الصباح حتى ذهب إلى بلدية المدينة يطالب بعودة روحه , واسترجاع عربته , لكنهم أهانوه وأذلوه , وأفقدوه الرجاء بعودة الروح وديمومة الحياة.
فكانت لحظة ثورة ذاتية , وانفجار بركان وجود مطلق , تدفقت منه ألسنة لهب الإحتجاج والثورة على الظلم والإمتهان.
فكان جسده الشعلة الأزلية التي أذكت النيران في العقول والنفوس!
فتحول إلى تمثال في الميدان , وعربته تحفة إنسانية في متاحف الأبد والسرمد المتوهج بأفكار الإمعان!
|