على إثر تصريحات الطيب العقيلي المحامي وعضو "المبادرة الوطنية من أجل كشف الحقيقة في اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي" حول إمكانية تورط أطراف إسلامية في عملية اغتيال المناضلين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وما تلا هذه التصريحات من ردود فعل للأطراف المشكوك فيها ومشتقاتها وصلت إلى حدّ التهديد (اتحاد الشغل ومبناه وقياداته؛ العقيلي نفسه) ، لا يسعنا إلا أنّ نتساءل هل للإسلام السياسي، المتمثل في حزب النهضة وكذلك في أحزاب أخرى مثل التحرير وأنصار الشريعة، ما يكفي من العقلانية لضمان حَوكمة سليمة وتسيير للشأن العام ذي مردود عالٍ وبالتالي هل لحزب النهضة حظوظ للفوز في انتخابات قادمة كما فعل في 23 أكتوبر من سنة 2011.
إنّ الإسلام دين عقل وعلم وعمل، لكن يبدو أن ليس للحركات الإسلامية السياسية عقلانية ومنهج علمي ومقاربة تطبيقية إلا في ما لا ينفع الناس. فقد يحتار المرء حقا أمام إدراك ازدواجية قلَّما وُجدت في ثقافة أخرى غير الثقافة العربية الإسلامية، وهي ازدواجية توحي بالرصانة والتعقل لكن في الآن ذاته تثبت أنها عدائية وعنيفة. والحال أنّ الازدواجية الوحيدة المقبولة التي تميز هذه الثقافة هي من الصنف الباعث على الإبداع ألا وهي الجدلية بين النقل والعقل أو النص والواقع أو الكتاب والسلوك.
لو كانت هذه الجدليات المشروعة محسومة وِفق منهجية واضحة لَمَا تشدق القياديون الإسلاميون التونسيون بالاعتدال والديمقراطية بينما بعضهم لا يتوانى عن الجلوس إلى إرهابيين معروفين على غرار الليبيين عبد الحكيم بلحاج ، مثلما أكدت الصور والوثائق التي جلبها العقيلي وعرضها أمام الملأ في المؤتمر الصحفي (المنعقد في 2- 10-2013)، ولَمَا أضحى تتبع الطرف الذي كان قد سرّب الوثيقة الأمنية بشأن وجود مخطط لاغتيال محمد البراهمي (قبل اغتياله بأسبوعين تقريبا) أهمّ وأولى من استجلاء الحقيقة بخصوص الأطراف التي منعت وصول الوثيقة إلى أولي الأمر الأمني والتحرك السريع بمقتضاها.
ثم إنّ الفاعلين الإسلاميين السياسيين يولون أولوية من الصنف اللغوي الإنشائي، دون سواه، للشريعة الإسلامية بينما هم يخالفونها في الواقع، سواء كان ذلك في مستوى تسيير شؤون البلاد (بطالة، اشتعال الأسعار، تداين) أو في مستوى السياسة الخارجية (مساندة السفاحين المنضوين تحت يافطة المعارضة السورية).
وإلى متى سنسمع بين الفينة والأخرى عن "سلفية علمية" وأخرى "جهادية" والحال أنّ المنهج السلفي العلمي لا يعدو أن يكون رغبة في تطبيق الحَرفية النصية من دون أي اجتهاد أي من دون علم أو إعمال للعقل، وأنّ المنهج السلفي الجهادي لا يتضمن من الجهاد إلا ما يحصل بواسطة العضلات وإراقة الدماء أي من دون منهج دال على صنف الجهاد الأكبر ألا وهو جهاد النفس الأمارة بالسوء والذي يتطلب لوَحدِهِ مقررات تربوية وبرامج توعوية وكتب توضيحية وإدارة ومشرفين يسهرون على تطبيقه؟
إنّ كل ما نشاهده ونسمعه عن الإسلام السياسي بكل أطيافه لا يعدو أن يكون ظاهرة صوتية طال رنينها وطنينها. لكنها ظاهرة مهددة لكيان الوطن والقوم والأمة لأنها أصبحت في الأثناء، وفق تشبث أصحابها بالقول دون الفعل (الإيجابي) وبالمظهر دون الحقيقة وبالإنشاء دون الواقع، ظاهرة لغوية فاسدة تستوجب المعالجة العلمية.
ويتمثل العلاج في تصحيح العقيدة العامة ومن ثمة في دفع الإسلام السياسي إلى التطبيع مع سياسة المسلمين. وهذا عمل يستوجب أن يُقحَم ضمن مقاربة العلاج عاملٌ جديد، اكتشفناه وجربناه ووظفناه في مناهج عملنا، ألا وهو عامل اللغة كعقيدة، أي كجزء من الوحي (إن يتجزأ أم لا يتجزأ وذلك حسب الضرورة).
بهذا المعنى سيتسنى للمجتمع أن يحاسب نفسه، ومن باب أولى يحاسب المسلمين كافة و الإسلام السياسي على الأخص، لا فقط حسب ظواهر الأمور كما يحدث الآن وإنما حسب العلاقة المتينة بين ما يَظهر وما يُفعل، بين ما يُقال وما يُنجز. بكلام آخر متى سيكون للمسلمين"كفاءة تواصلية" ("تديّنية") إلى جانب "كفاءة دينية" أثبتت أنها لا تُجدِي نفعا إن بقيت معزولة عن الواقع المعيش.
|