يوم كان الكتاب عزيزا والكُتّاب على عدد أصابع اليد كانت هناك طقوسا رائعة يمارسها الكاتب والقارئ؛ منها قيام المؤلفين بإهداء نسخ من منتجهم الفكري إلى أشخاص معينين من أصدقاء ومسؤولين وتخصصيين، وكان هؤلاء يبادلونه الكرم إما بتقريض الكتاب أو تأريخه شعرا أو الكتابة عنه أو الإشادة به أو مجرد توجيه رسالة شكر يبينون فيها امتنانهم لهذه الهدية، وهي طقوس يلتزم بها المُهدي والمُهْدى إليه ولا يتجاوزونها لأنها من الآداب العامة التي درجوا عليها، هذا مع صعوبة التواصل يوم ذاك. وربما لهذا السبب وغيره كان المؤلفون يزينون الطبعات اللاحقة من الكتاب التي يعيدون طباعتها بما يصلهم من ثناء ومديح وشكر.
أما الآن بعد أن تغيرت الأحوال وتذللت الصعاب وبات إيصال الكتاب الكترونيا إلى أقصى العالم يتم بلمح البصر؛ وجواب الشكر يصل بنفس السرعة لم تعد تلك الطقوس الحلوة معمولا بها لدرجة أن الكثير من المؤلفين أحجموا عن إهداء كتبهم، وأنا واحد من هؤلاء، مع أني مع شدة الممانعة أعود وأنكث الوعد وأهدي مجموعة كبيرة من النسخ ولا أعتبر من عبر الماضي؛ فأكتفي بلوم نفسي.
بين هذه وتلك كانت قناة العراقية الفضائية قد طبعت واحدا من كتبي وأجرت معي لقاء حول موضوعه عرض في شهر رمضان دون أن أعرف موعد العرض فعتب علي بعض الأصدقاء لأني لم أخبرهم بالموعد، وصدف أن قام السيد رسول الزبون معد ومقدم البرنامج بنشر اللقاء على قناة (youtube) وأرسل لي الرابط فقمت بإرسال الرابط إلى بعض الأصدقاء ومنهم الذين عتبوا ولاموا فلم أستلم كلمة طيبة واحدة من أي واحد منهم؛ باستثناء الرسالة اللذيذة التي وصلتني من صديقي التونسي الأستاذ الأديب محمد الصالح الغريسي (رعاه الله) وهي رسالة جميلة فيها الكثير من المعاني والعبر وعبق الماضي الجميل، ولذا أجدني مدفوعا إلى نشرها لتكون إشعار عتب من كل باحث يهدي منجزه إلى الآخرين ولا يُهدون إليه مجرد سطر من الكلمات: جاء في الرسالة، قول الأستاذ الغريسي:ـ
"صديقي الرّائع صالح الطائي
لقد شاهدت هذا الفيديو بعين متلهفة وسمعت ما دار فيه من حوار شيّق بأذن صاغية وفكر متمعّن، فوجدت نفسي في جلّ ما ورد فيه قاسم مشترك يجمع بيننا في النّظرة إلى الأشياء، وليس من قبيل الصّدفة أن نشترك حتى في الاسم (صالح)، فهذا يلامس في العمق موضوع الهويّة الّذي أوليته اهتمامك فكان مادّة شيّقة أرجو أن تجد أسماعا صاغية وقلوبا مفتوحة لتتشرّب معانيها السّامية .
أخي العزيز .. لقد أصبحت الهويّة اليوم - للأسف الشّديد - مادّة تجاريّة بالدّرجة الأولى وورقة انتخابية ضمن اللّعبة السّياسيّة الّتي يديرها الكبار، ولم يعد العامل الجغرافي والتاريخي والثّقافيّ هي العناصر الأساسيّة المحدّدة له. وقد تفضّلت بالإشارة إلى أن العديد من الدّول - وهي حسب اطّلاعي الدّول الغربيّة الرّأسماليّة - تسمح للمنتسبين إليها بازدواجيّة الجنسيّة ، وهذا في رأيي واحد من عوامل الضّغط والتّحريف الممارسين على الهويّات الوطنيّة. فأنت اليوم ترى الأمريكي العراقيّ الأصل - مثلا - ذا الجنسيّة المزدوجة، يزور العراق، مفاوضا تجاريّا أو ماليّا أو عسكريّا أو سياسيّا باسم المصلحة الأمريكيّة ومدافعا مستميتا عن مصالح الجهة الّتي انتدبته لهذه المهمّة، حتى لو كانت على حساب الطّرف الآخر. فالعولمة اليوم تسعى وبضراوة إلى تشويه الهويّات ذات الخصوصيّة الوطنيّة وتضرب مقوّماتها في العمق لتبني سلّما جديدا لها يرتبط أساسا بعالم المال والأعمال والمصالح عبر مؤسّسات الإعلام السّياسي والمالي، لتصبح العوامل الأخرى ثانوية وغير ذات بال. وإمعانا في طمس الهويّة الوطنيّة لبلد ما، أصبح - كما تفضّلت - انتماؤك إلى فريق ما لكرة القدم أو تعصّبك لفنّان ما أو موسيقى ما قد يكون عاملا محدّدا لهويّتك .
إنّ هويّة أمّة ما أو مجموعة بشريّة لا يحدّدها في تقديري إلاّ البصمات الّتي تتركها على الأرض لتميّزها تفوّقا أو منافسة أو مشاركة، عن غيرها من الهويّات، دون أن تفقد القواسم المشتركة مع الآخر، ألا وهي القيم الإنسانيّة العليا، الّتي كانت وستظلّ عاملا أساسيّا في بناء الحضارات. فهويّتك في النّهاية، هي حصيلة ما يميّزك عن الآخر ممّا تقدّمه من أعمال أو تتركه من أثر سلبا أو إيجابا. فالعلاقة بين الهويّة والآخر علاقة جدليّة، يسهم كلّ منهما في بناء الآخر، بشكل أو بآخر .
أخي العزيز .. لا يسعني إلاّ أن أحيّيك على ما تبذله من جهود قيّمة ، وما تسعى إلى نشره من قيم نبيلة . (وأمّا الزّبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض)
تحيّاتي وتقديري"
شكرا لك أخي محمد صالح الغريسي لأنك أعدتني إلى أجواء هذا التقليد الجميل والعريق.
|