في كل مرة نفقد فيها أحد الشخصيات الدينية البارزة يتفاعل المجتمع وأفراده مع هذا الحدث، بالخصوص المجتمع الذي ينتسب له هذا الفقيد، ولهذا نرى في كل مرة ضجيج الضاجون وعجيج العاجون، إذ أصبح هذا المشهد مألوفاً عندنا تعودنا على تكراره وتكرره، وللأسف أن غالبية هذه الشخصيات التي يصنع بعد وفاتها هذا الصنيع كانت في حياتها شخصيات مهملة أو شبه مهملة، ولكن بعد ارتحالها نرى ردود أفعال غير متناغمة مع ما كان عليه الوضع قبل وفاتها، مما يجعلنا نشعر أحياناً وكأن هذه الشخصيات لم يعيشوا في نفس المجتمعات التي تندبهم وتنعاهم يوماً من الأيام، وهذا يذكرني بهذا البيت من الشعر:
لا ألفينك بعد الموت تذكرني ....... وفي حياتي ما زودتني زادا
والمشكلة عادة –كما أعتقد وأرى- ليست مقتصرة على عموم المجتمع، بل أراها أيضاً بارزة ومستفحلة لدى فئة النخبة، وبالخصوص من رجال الدين، فكم شاهدنا بعضهم وهم يطلقون الزفرات ويذرفون الدموع لفقد شخصية دينية بارزة، ويؤبنونها بكلمات لا تنسجم بتاتاً مع ما كانوا يعاملونها في حياتها، وكم رأينا بعضهم يمنح أرقى الألقاب لهذه الشخصيات بعد وفاتها بكل كرم وجود بعدما كان يبخل عليها بها في حياتها، إذ كثيراً ما سمعنا ورأينا شخصية دينية كانت تُخاطب بالشيخ فلان في حياتها، ولكنها بعد وفاتها أصبحت تلقب بآية الله فلان أو بالعلامة الحجة فلان.. ولا أدري هل أنه أكمل مسيرته الدراسية بعد أن ألحد في قبره؟ !
مهما يكن الأمر، إن كان هناك خطأ أو تجاهل لبعض الشخصيات الدينية فهو ليس بسبب عموم المجتمع وإنما بسبب رجال الدين أنفسهم، فالكثير من رجال الدين يكاد لا يذكر أحداً من رجال الدين الآخرين -المنافسين له أو المنتمين لتيار فكري آخر يختلف معه- بالمدح والثناء إلا إذا انتقل إلى جوار ربه، وربما كان يعاديه أو يتجاهله في حياته لأنه منافس له ويخشى منه على نفسه، ولكن تنقلب الصورة إذا توفاه الله ونراه بعدها يبدع في طريقة نعيه وتأبينه له !
وبعض رجال الدين بدلاً من الاعتراف بتقصيرهم بحقه في حياته نراهم يتنصلون عن مسؤوليتهم ويهاجمون الناس البسطاء، ويتهمونهم بالتقصير في حق هذا العالم الجليل المتوفى، فنسمع بعضهم وهو يقول: لقد كان الشيخ الجليل الفلاني مجهول القدر ولم يعطى حقه.. وغيرها من العبارات التي تدور في نفس الفلك والتي تنسب التقصير لأفراد المجتمع.
ويحق لنا أن نسأل من يقول مثل هذه الكلمات: إذا كان الشيخ الفلاني مجهول، فهو مجهول من من؟ وإذا كان لم يعطى حقه، فهو لم يعطى حقه من من؟ وإذا كان لم يحترم فهو لم يحترم من من؟ فإن جواب هذه الأسئلة يحدد المشكلة ويوضح ملامحها ولا يتركها مجهولة، ولهذا نحن في أمس الحاجة لمعرفة الإجابة عليها لأننا محتاجون لهذا التحديد ولهذا التوضيح.
إنني أعتقد بأن الشخصيات الدينية المتوفاة عادة ما تكون مجهولة ولم تعطى حقها ليس من قبل الناس البسطاء بل من قبل رجال الدين أنفسهم، فنحن نرى عموم أفراد المجتمع يحترمون ويقدرون الشخصية الدينية، إذ يسألونها ويستفتونها، ويكرمونها ويستشيرونها في قضاياهم ومشاكلهم، ويسمعون كلامها وينصاعون لأوامرها وتوجيهاتها، بل إننا نراهم كثيراً ما يبالغون في ذلك، وهذا أقصى ما يستطيع فعله الإنسان البسيط.
أما رجال الدين وإن كانوا كثيراً ما يطالبون الناس بإتباع أوامر وتوجيهات علماء الدين، إلا أنهم بالنسبة لغيرهم من أكثر الناس تمرداً عليهم وإجحافاً بحقهم، وقلما نجد شخصاً منهم يذكر أحد رجال الدين الآخرين أو يعترف بحقه في حياته حتى ولو كان متفوقاً عليه فعلاً، خصوصاً إذا كان من أقرانه أو ينتمي لتيار فكر يخالفه !
أتذكر أنه في حياة الشيخ محمد الهاجري رحمه الله كان المسجد الذي يصلي فيه عادةً لا تكتمل عدد صفوفه الثلاثة في الصلاة، ولا نكاد نسمع أحداً من رجال الدين يذكره مادحاً إلا نادراً، مع أن للشيخ دور بارز من المنطقة بكونه قاضي المحكمة الجعفرية آنذاك، ولكن بعد وفاته رأينا الكثير منهم –أي من رجال الدين- يتسابقون في ندبه وتأبينه، بل رأينا بعضهم وكيف صار يلهج بذكره وينشأ المؤسسات الدينية باسمه بعد ما كان يتجاهله ويخالفه، ومع ذلك نرى هؤلاء وهو يصيحون بقولهم: لقد كان شيخنا الهاجري مجهول القدر ولم يعطى حقه !
أكاد أقطع بأن الكثير من رجال الدين يحارب بعض رجال الدين الآخرين في حياتهم لأنهم منافسون له، ولكنه بعد وفاتهم يلجئ لاستغلال أسمهم لكي يلتحق بجماعته من كان يقدرهم ويحترمهم !
|